الاثنين، 13 أبريل 2015

الأعرج فى الميناء


 نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان




الأعرج فى الميناء

     عندما ذهبت إلى السويس ، لأول مرة فى حياتى ، لم تكن الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت .. ولم يكن الإنجليز يعسكرون فى مدن القناة ، وإنما كانت الحياة هادئة جميلة فى تلك المدينة ..
     وكنت أعمل صرافا فى مصلحة كبيرة .. أصرف الأجور والمرتبات لآلاف من العمال والموظفين الذين يعملون فى الميناء ..
     وكان العمال يصرفون أجورهم مرتين فى الشهر ، والموظفون مرة واحدة فى اليوم الأول من الشهر ..
     وكانت هذه الأيام الثلاثة من أشق الأيام .. وكان أسوأ ما فى المسألة أننى أصرف الشيك من البنك الأهلى فى سكة الزيتية .. ثم أذهب بعد ذلك إلى المحافظة لاستبدال بعض أوراق البنكنوت بالعملة الفضية والنيكل والبرونز .. ولهذا كنت أتأخر فى الصرف إلى الساعة الرابعة بعد الظهر .. وأخرج من المكتب إلى الفندق وأنا محطم تماما ، فأتمدد على الكنبة إلى الغروب .. ثم أذهب إلى مشرب من مشارب الجعة المشهورة فى هذه المدينة .. وآكل الجمبرى السويسى والسمك المشوى .. وبغير الجعة والفوسفور فى السمك كنت لا أستطيع أن أنام
بعد العمل الشاق والارهاق العصبى المدمر ، وأنا أصرف ثمانية آلاف من الجنيهات وأنا واقف على قدمى .. وكان المتعب فى العملية الناس الذين يطلبون الفكة .. والفضة الجديدة .. ويرفضون بعض أوراق البنكنوت كأنها مزيفة .. ويأتى بعد الرجال .. المطلقات اللواتى يصرفن النفقة .. وكانت الواحدة منهن لا تستطيع أن تعد أكثر من عشرة .. وتحسب فى كل مرة أن نقودها ناقصة وأننى سرقتها .. ومنهن من كانت تتهم زوجها بسرقة ختمها .. وارسال واحدة بدلها ..
     وكانت هذه الحوادث لا تنتهى أبدا ..
***  
     وكنت مع تعبى الشديد والخوف من العجز .. أجد لذة محببة فى دراسة هذه الوجوه التى تقف أمامى على شباك الصرف .. وأرى فى بعض النساء وجوها صباحا تصرخ بالفتنة فأهدأ .. وأكون كمن أعطى حقنة مورفين وهو فى أشد حالات الهياج العصبى ..
     وكان عملى مستقلا عن عمل الموظفين .. ومكتبى فى غرفة تطل على البحر .. ومن نافذتها كنت أشاهد ما يجرى فى الميناء ، وأرى البواخر الضخمة وهى تعبر القناة .. منطلقة فى عرض البحر وراسية فى الحوض الجاف .. ومفرغة حمولتها على الرصيف .. داخل النطاق الجمركى .. وأرى العمال وهم يعملون ويغنون وعلى أكتافهم الأحمال
الثقيلة ويجرون على السقالات والأرصفة وعرقهم يتصبب ..
     وكنت أصطفى اثنين من الموظفين بالمودة .. شاهين أفندى وكان فى قسم الادارة بالمكتب وأمين أفندى وكان مهندسا فى الميناء وكان أعرج .. ويعد من أبرع المهندسين فى المصلحة على الاطلاق ..
     وكنا نجلس نحن الثلاثة يوميا .. على " قهوة " فى مدينة السويس نسمر إلى منتصف الليل ثم يذهب كل واحد منا إلى بيته ..
     وكان بيت أمين أفندى من طابق واحد على سكة الزيتية .. وقريبا من البحر .. وكان أمين أعزب ولا يقوم على خدمته أحد .. وكان يأكل فى الخارج .. ويعطى ملابسه " للمكوجى " .. وينظف له البيت أحد الفراشين فى المكتب من حين إلى حين .. وكان مع عرجه رياضيا ويحب المشى .. ويستحم فى البحر يوميا قبل الشروق .. فى الصيف والشتاء .. وأحسبه الوحيد الذى كان ينزل إلى البحر فى تلك المنطقة .. لأنها كانت مشهورة بحيوان " القرش " وكان يعرف هذا ولكنه لم يكن يخشى أى شىء فى الحياة ..
     وكنت أسمع أنه يشتهى النساء ولكنه لم يكن يتحدث عنهن أمامى كشىء يشغل البال ..
     وكنا نجلس فى مسـاء الأحد على طريق البحر ، ونرى أسـراب
النسـاء الخارجـات للتنزه وكان معظمهن من الأجـانب .. ومـن
الإيطاليات ..
***  
     وكانت تمر أمامنا أختان متشابهتان فى الجمال وطول القوام .. وكانتا أجمل من نرى من النساء ، وتبدوان متعاليتين .. فى أرستقراطية . وكنا نرى أن جمالهما الارستقراطى لاروح فيه .. ومع ذلك فقد كانتا محط أنظـار الرجال ، ولكن ما من انسان كان يجرؤ على الاقتراب منهما ..
     وكان المكتب فى بور توفيـق .. والفندق الذى أقيم فيه فى السويس .. وفى شـارع السوق الرئيس .. وكنت أضيق ذرعا بالضجيج ، والحركة فى الشارع ، وركوب القطار كل يوم .. وأود لو أعثر على سكن فى بور توفيق .. ولكنها كانت ضاحية بنتها الشركة لموظفيها .. ومساكن الأهالى فيها قليلة .. وان وجدت بيتا صغيرا .. فليس معى عفش .. وتأثيث بيت حتى على أبسط صورة ليس بالأمر الهين على شاب مثلى راتبه صغير .. وكان جلال وهو فراش الخزينة ، والذى يرافقنى وأنا أحمل الصرة ، يعرف المشقة التى أعانيها من السكن فى السويس .. فأخذ يسعى منذ قدومى ليجد لى غرفة مفروشة ببور توفيق .. وأخيرا دلنى على غرفة عند سيدة أجنبية تسكن فى طرف هذه الضاحية .. وأوصانى وأنا ذاهب إليها أن أكلمها بلغة أجنبية حتى تتصور أننى أجنبى .. لأنها لا تسكن المصريين .. ومتى أدركت الحقيقة بعد أسبوعين .. تكون قد خبرت طباعى واطمأنت إلىَّ ..
     وذهبت على هذا الاعتبار وقرعت بابها ..
     وفتحت لى الباب .. نصف فتحة ، وكانت خارجة من المطبخ .. وترتدى مريلة على ثوب بنى قصير .. وكانت غير متزينة .. ولكنها تبدو مشرقة .. وقلت لها بالفرنسية عن بغيتى ..
     فقالت :
     ـ تفضل ..
     وأرتنى الغرفة .. وكانت فوق مستوى أحلامى ..
     ولكننى رأيت أن أستعمل المكر الريفى حتى لا أظهر لهفتى على الغرفة ..
     ـ هل تدخلها الشمس ..؟
     ـ شمس .. اننا فى الصيف ..!
     ـ ولكننى أحـب أن أنام فى غرفـة تدخلها الشمس .. صيفا وشتاء ..
     ـ تعال فى الساعة الرابعة لترى الشمس بعينيك تملأ الغرفة ..
     ـ سأجىء ..
     وقالت وأنا فى الطريق إلى الباب :
     ـ من الذى دلك على الغرفة ..؟
     ـ مسيو .. جورج ..
     ولا أدرى لماذا اخترت هـذا الاسـم .. وخـفت أن تسألنى ..
     " جورج من ..؟ "
     ولكنها انقذتنى من الحرج .. بقولها :
     ـ أتجلس عنده ..؟
     ـ أجل ..
     فأدركت أنه حلوانى أو صاحب مشرب فى السويس ..
     وأطلت برأسها من النافذة ، وأنا أجتاز سور بيتها .. وقالت :
     ـ ستأتى فى الساعة الرابعة ..
     ـ بكل تأكيد ..
     وفى مساء اليوم نفسه انتقلت إلى الغرفة ..
*** 
     وكانت " مارينا " .. أرملة ، ترك لها زوجها فتاة فى التاسـعة من عمرهـا وطفلا فى الرابعـة .. وكانت الفتاة فى مدرسـة ايطاليــة
بالسويس ..
*** 
     ومر شهر .. ولم أكن أعير هذه المرأة .. التفاتة .. ولا كانت هى ..
 ولكننى كنت قد غيرت طريقة حياتى ، فأصبحت لا أذهب إلى السويس إلا مرة أو مرتين فى الأسبوع ..
     وكان " أمين " يجىء إلى بيتى .. وأخرج معه إلى الميناء .. وكان يلاحظ لانشات المصلحة وبواخرها .. والعمال فيها .. وكان المحرك للميناء .. والقوة الفعالة فيها .. ويعمل دون صراخ أو ضجيج .. وكانوا يأتون به فى أيام راحته .. ويوقظونه من نومه .. لأنه الإنسان الوحيد الذى يستطيع أن يحرك هذه الآلات الكهنة .. ويديرها وينفخ فيها من روحه ..
     وكان لا يحب القبطان ولا وكيله .. ويكره كل إنسان يجلس إلى مكتب أو بين جدران أربعة .. ويقول عنهم أنهم جهلاء .. لا يعرفون الحياة لأنهم لايعيشونها .. وكان يغضب أشد الغضب عندما يراهم يخصمون يوما من بحار ، أو عامل انقطع عن العمل لمرضه .. ويقول ثائرا :
     " هاتوه أمامكم لتروه .. واعرفوا حاله .. بدلا من تقرير مصير الناس على الورق  " ..
     ولم تكن المنازعات تنتهى بينه وبين الموظفين فى المكتب أبدا .. لأنهما كانا قوتين تتصارعان .. كان هو يعمل للخير والحياة .. وهم للروتين والعفن ..
     وكان يسكر مثلى ، ولكنه لم يكن يسبب الأذى لأى إنسان .. وكان يدافع عن العمال ويتحمل كل ضروب العنت فى سبيلهم .. وكنت أصطفيه لأنه كان إنسانا ، وكان رياضيا .. يحب المشى والرياضة مثلى .. فكنا نقطع الطريق من بور توفيق إلى السويس سيرا على الأقدام .. وفى بعض الحالات نواصل السير إلى الأربعين ..
     وكان يقرأ .. ويتحدث عن الأدب ، وأرى فى يده أكثر من كتاب لبروست وزولا .. وكنت أسأله :
     ـ لماذا لايوجد أديب فى الشرق مثل جوركى .. أو دكنز .. أو همنجواى ..؟
     ـ لأن الأدب عندنا ينفصل عن الحياة ..
     ـ أليس للاستعمار .. دخل فى هذا ..؟
     ـ ان الأدب يزدهر وينمو .. حيث القلق والاضطهاد .. ولكنا لا نعيش فى الحياة ولا نصل إلى أعماقها ..
     ـ ألا نأمل فى المستقبل ..؟
     ـ طبعا .. فمع كل المساوىء التى تراها فى الحياة والفن .. فنحن
نتقدم .. ولكننا نعقد الحياة .. ونشوه وجهها الجميل .. وهؤلاء العمال الذين تراهم فى الميناء يمكن أن يوجد من بينهم مائة قارىء يقرأون ويسمعون الموسيقى على أحسن وجه .. لو هذبت مداركهم .. ورفعت مستواهم .. وجـعلت لهم فى هذا المكان قاعة للمطالعة ومثلها للموسيقى .. أنهم لا ينقصهم شىء .. عن أى إنسان أوربى ولكننا نشوه الحياة عندنا وننقص من قدرنا متعمدين ..
     وقد رنت كلماته فى أذنى ، وحاولت من هذه اللحظة أن أعيش فى الحياة ..
***
     وكان يجىء إلى بيتى فى يومى الخميس والأحد .. وكنا فى هذين اليومين نسهر ونسكر .. وكانت مدام " مارينا " تسهر معنا .. ونتحدث فى كل الشئون .. ولم أكن أدرى أنشأ بينى وبينها بعد هذه الشهور السبعة ما يشبه الحب .. ولكننى كنت أرتجف وأنا أراها كاشفة عن مفاتنها أمامى .. وكان من عادتها أن تغلق نوافذ البيت فى ساعة القيلولة ، وتسدل عليها الستائر ، وتلبس قميصا أبيض قصيرا ، كأنه مقطوع بمشرط فى نصف دائرة كاملة .. أو كأنها خلعته فى الجانب الأيمن من الكتف ، ونسيت الجانب الأيسر فتركته على حاله .. ثم تنساب فى البيت وهى على هذه الصورة وخصرها مائل إلى جانب .. وتوقظنى من أحلامى وهى تنحنى أمامى وتأخذ سيجارة من علبتى .. وتشعلها .. وتنفث دخانها .. وأنشق عبير أنفاسها .. وعندما رأتنى أقرأ كثيرا .. وأحبس نفسى فى الغرفة .. قالت لى وهى باسمة فى أسى :
     ـ لماذا تتعب نفسك فى الدرس يا مسيو مراد .. هل تعد رسالة للدكتوراه ..
     ـ اننى أقرأ لأتسلى ..
     ـ أخرج إلى الشارع ، لترى الناس وتتمتع بالحياة .. لا تضيع شبابك هكذا ..
     وأمسكت بيدى مرة .. وكنا ندفع السفرة إلى جانب الحائط ..
     ـ أرأيت .. أثر الكتب على جسمك .. انك ضعيف محطم ..
     وكأنما لسعتنى بسوط وعلا وجهى الاصفرار ..
     وذات يوم من أيام الصرف للعمـال .. تأخرت فى استبـدال العملة .. الفضة فى المحافظة ..
     وتعطلت بنا السـيارة فى الطريق إلى بور توفيـق فزادت الأمر سوءا .. وعندما وصلت إلى باب المكتب فى الساعة الثانية بعد الظهر .. كان آلاف العمال يقفون فى الشارع .. ويسدون علىَّ الطريق .. وفى عيونهم التذمر والقلق ..
     ودخلت المكتب وأغلقت ورائى الباب .. كان لابد من عد الفضة
قبل البدء فى الصرف .. وأخذ العمال يتصايحون فى الخارج .. ثم أخذوا يقرعون الباب بعنف وازداد الاضطراب والصياح .. وصحت فيهم وتوقفت عن العمل .. وزاد هياجهم .. وأفلت الزمام من يدى .. ومن يد القبطان .. وكل رجل مسئول فى الميناء ..
     وهاجوا ودفعوا الباب بالقوة ودخلوا .. وكانت النقود مبعثرة على الطاولة .. وزاغت عيونهم .. واصفر وجهى ، وتقدموا فى هياج نحو الطاولة ..
     وكنت واقفا وحدى .. وبجانبى الساعى .. ونحن نكاد نختنق ونتحطم ..
     وفى تلك اللحظة الحاسمة .. سمعت صوت " أمين " خلف هذه الجموع .. ونظروا جميعا إلى الخلف ، وتسمروا فى أماكنهم .. ودخل يشق الصفوف .. وانقطع كل صياح .. وعاد السكون والنظام .. ووقف بجانبى وأنا أصرف لهذه الجموع ..
***
     وسهرنا فى مساء الأحد مع " مارينا " كعادتنا .. وسكرنا ..
     وكان من عادتها أن تجلس معنا بعد أن ينام طفلها ، وتذهب ابنتها إلى سريرها .. وتغلق عليها النور ..
     ثم تقبل علينـا رشيقـة ضاحكة .. وقد ارتدت رداء بسيطا يبرز
محاسنها ، ويزيدها جمالا ..
     وكانت تدير الجرامافون وتدور علينا بالكؤوس .. وهى نشوى طروب .. ولما انتهت السهرة ونهض أمين ليذهب ، رأيت أن أرافقه إلى المحطة .. فقالت مارينا :
     ـ سأخرج معكما ..
     وخرجنا ثلاثتنا إلى الطريق .. وأحسست بالصفاء وبالسرور وبجمال الضاحية .. وجمال الطبيعة من حولى ، وجمال القمر ..
     ولما أركبنا أمين القطار ، وعدت معها فى الشارع الذى على جانبيه الأشجار ، كنا وحدنا .. ولم نصادف إنسانا فى الطريق .. وكنا نسير متمهلين ..
     وسألتها وقد شعرت بضربات قلبى تشتد :
     ـ هل أنت مستريحة لوجودى فى بيتك ..؟
     ـ طبعا .. انك فى غاية الأدب .. وأنا أستفيد منك ..
     ـ كيف ..؟
     ـ ايجار الغرفة .. والطعام ..
     ولكن فائدتى أنا ليست مادية كما ذكرت .. فأنا أشعر معك بسعادة روحية .. سعادة من يحب ..
     ـ يحب ..؟!
     ـ أجل .. اننى أحب ..
     ـ تحب من ..؟
     ـ أنت ..
     ـ هل أنت سكران ..؟!
     ـ لماذا ..؟
     ـ لأنك بدأت تهذى ..
     وظهر على وجهها الغضب ..
     ـ ألا أصلح للحب ..؟
     وهزت كتفيها .. ولم تنبس ..
     شعرت بمثل الدوامة تلفنى ، وبمثل موج البحر الذى بجوارى يدفعنى إلى بعيد ..
     ودخلنا البيت صامتين ..
***
     وكأنها شعرت بالخنجر الذى غرسته فى قلبى .. فقد أخذت تعاملنى بلطف ودون كلفة كأننى فرد من الأسرة .. وتطلب منى أن أساعد بنتها فى دروس المدرسة .. وتشركنى معها فى نقل الأثاث .. من غرفة إلى غرفة .. وفى تنسيق المائدة .. وتطلب منى أن أختار لون الطعام الذى أحبه .. ولكننى رغم هذا لم أتقدم نحوها بأية خطوة جديدة ..
***  
     وفى يوم الأحد التالى جاء " أمين " وسهر معنا كالعادة .. وكنا نتعشى عشاء بسيطا فى الصالة ونشرب النبيذ الإيطالى .. ونستمع إلى الموسيقى .. ولاحظت على المائدة .. وكانت " مارينا " تجلس بيننا .. أن يدها لامست يد " أمين " أكثر من مرة .. ولم أكن أعرف هذه الحركة جاءت منها عفوا ، أم متعمدة ..
     ولكن لم يظهر على وجه " أمين " أنه أحس بيدها ، أو لاحظ منها هذه الحركة ، وعندما نهضنا عن المائدة وجلسنا .. ندخن فى الفراندة .. ذهبت هى إلى المطبخ لتصنع قهوة ومشيت إلى غرفتى لأجىء بعلبة السجائر .. ورأيتها وأنا راجع .. مقتربة منه وهو يدفعها عنه بلطف ..
     وتأخرنا فى السهر ، ولما نهض أمين ليذهب إلى السويس .. خفنا أن يفوته آخر قطار .. فعرضت عليه أن يبيت .. وبعد الاصرار .. قبل ونام فى غرفة وحده ..
     وذهب كل منا إلى فراشه ..
     وفى آخر الليل تنبهت على حركة .. وسمعت صوتها .. وكانت تهمس فنهضت ومشيت نحو مصدر الصوت .. فرأيتها بجانب فراش " أمين " .. وهى حافية وبقميص واحد وصدرها كله عار .. وكانت تلتصق به ، وهو يدفعها عنـه بقوة ، ولكنهـا كانت تعاود الكرة ..
فغضب ودفعها بعيدا .. وأغلق عليه الباب بالمفتاح ..
     وفى الصباح نهض قبل أن أصحو وذهب ..
***  
     ولم يأت إلى بيت مدام " مارينا " بعد هذه الليلة .. وقال لى معللا انقطاعه بأن بور توفيق هادئة .. أكثر من اللازم ولا تجعله يحس بالحياة فى الليل .. ويجب أن نغيرها .. فاخترنا مكانا آخر نمضى فيه السهرة ..
     وسألتنى المدام ذات مرة :
     ـ لماذا لا يأتى صاحبك الأعرج ..؟
     ـ انه يتعب من المشوار ..
     ـ ما الذى يعجبك فيه حتى تصاحبه .. ألم تلاحظ مشيته وهندامه وشكله القبيح ..؟
     ـ ولكن النساء تحبه رغم هذا ..
     ـ ان هذا أعجب شىء سمعته .. لابد أن تكن عاهرات ..
     ـ وإذا لم تكن عاهرة ..
     ـ تكون مخبولة .. فإن أى امرأة بعقلها تبصق على وجهه إذا اقترب منها ..
     وكنت أعرف أنه جرح كبرياءها فى الصميم ، فلم أعجب وأنا أسمع منها هذا الكلام ..
***  
     وكنت أذهب إلى بيت أمين بعد الظهر .. إذا ما كانت لى حاجة فى السويس .. أو مررت على البنك ..
     وذات مساء فتح شراعة الباب ولم تكن هذه عادته .. ولما رآنى ظهر على وجهه الاضطراب ، رغم أن وجهه لايعبر عن انفعاله .. وكان من عادتى أن أدخل توا إلى غرفته ..
     ولكنه ابتدرنى بقوله وهو يشير إلى غرفة الجلوس :
     ـ اقعد هنا يامراد .. الأوده ملخبطة .. وفيها بق .. الحمار ماجاش ينضف .. حالبس حالا ..
     ومضت دقيقة وسمعت همسا ، وصوت أنثى ولغة أجنبية لا أعرفها .. ثم تحرك ظل امرأة فى الصالة وخرجت بخفة .. ولما أصبحت فى الطريق .. نهضت ونظرت من النافذة .. فوجدتها كبرى الأختين الارستقراطيتين اللتين كانت تتنزهان أمامنا فى طريق الزيتية ، ولا يجرؤ إنسان على الاقتراب منهما ..
***   
     وحدث عصر يوم من أيام الخريف أن جاء شاهين إلى البيت وهو مضطرب .. وطلب من " مارينا " أن توقظنى من النوم ..
     وأخبرنى وهو يبـكى .. أن أمين سـقط وهو يركب القطار وهو
يتحرك .. فى محطة بور توفيق ..
***  
     وعندما نقلناه إلى المستشفى .. كان أشق الأشياء على نفسه أن يراه الناس محمولا على عربة ذات عجلات ..
     وقرر الطبيب اجراء عملية جراحية له .. ولكنه انتهى بعد نصف الليل قبل أن تجرى العملية .. ولما عدت إلى البيت .. كانت " مارينا " لاتزال ساهرة وفى عينيها بقايا من دمع ..




====================================  
نشرت القصة بمجلة الجيل 8/8/1955 وفى المجموعة التى تحمل اسم القصة
====================================

ذراع البحار

ركبت " الأقمار السبعة " وأنا مسافر إلى استانبول وهى سفينة كبيرة من سفن البضاعة .. تحولت بعد أن نشطت السياحة فى هذا الخط إلى سفينة ركاب .. وكانت طويلة وضخمة وتدار بالفحم .. ولم أكن قبل سفرها بساعات قد استطعت أن أحجز فيها مكانا .. إذ كانت الرحلة الأولى لها بعد الحرب مباشرة .. والاقبال على السفر إلى الخارج كان شديدا ..
ولكن حدث فى آخر لحظة وأنا خارج من مكتب شركة الملاحة بالإسكندرية غاضبا ويائسا أن التقى بى أحد العمال فى المكتب وقال لى أنه يستطيع أن يجد لى " قمرة " أنيقة فى " الأقمار " بأقل من ثمن " تذكرة " الدرجة الثانية وما علىّ إلا أن أقطع تذكرة على الدك ..
وقطعت تذكرة " الدك " وعندما صعدت إلى السفينة قدمنى الرجل إلى بحار فيها يدعى " برتو " .. وأنزلنى برتو بعد أن أقلعت السفينة إلى جوفها ليرينى " القمرة " ..
وكانت فى القاع وقريبة من آلات السفينة ومحركاتها وموقد النار فيها ولكنها رغم هذا كانت " قمرة " نظيفة بسرير صغير ودولاب .. وفيها كل ما يحتاج إليه المسافر .. وكان بابها الصغير يفتح على هبو النار فى الفرن .. ولكن هذا لم يصرفنى عنها .. لأنها خير من النوم على الدك والتعرض لبرد الليل وكنت أقدر أننى سأقضى فيها الساعات الأخيرة من الليل فقط .. ولكن عندما أخرجت ملابسى من الحقيبة وسويت أمورى فى " القمرة " وجلست فى " الهول " الذى أمامها إلى مائدة مستديرة أعدت للعمال والبحارة وطلبت من عاملة البوفيه الشاى .. سحرنى المكان بجوه الغريب وما فيه من وجوه جديدة .. فأصبحت لا أبرحه ولا أصعد إلى سطح السفينة إلا قليلا ..
*** 
وكنت أجلس مع البحارة والفتيات العاملات فى السفينة مع الوقادين والعطشجية ومهندسى الآلات .. ومع بعض ركاب الدرجة الرابعة الذين يختارون هذا البوفيه لرخص أسعاره .. نأكل ونضحك ونغنى ونتحدث بكل لغات الأرض .. ولم يسألنى واحد ممن حولى عن جنسيتى .. فكلنا بشر .. وكان فى السفينة بحارة من كل الأجناس وركاب من كل بقاع الأرض وكنا نجتمع فى هذا المكان الدائرى فى القاع والأمواج تلطم السفينة وتلاعبها .. ونحن فى صفاء ومودة .. وقد نسينا كل الخلافات التى يثيرها رجال الحروب وكل المنازعات التى تقع على الأرض .. وكل المشاكل عن الجنس واللون والقارة .. كنا ننسى كل هذا ونعيش فى هذه الألفة مجتمعين .. وكلنا جنس واحد من خلق الله .. كلنا بشر ..
وكنا نتعشى على هذه المائدة الكبيرة نأكل المكرونة .. واللحوم المحفوظة .. والأسماك ونشرب الجعة ونتشارك فى الطعام والشراب .. ونستمع إلى صوت المندلين من أحد البحارة .. وكانت نار الفرن الكبيرة تشتعل عن قرب منا .. وعندما يفتح العامل الباب ويغذيها بمجراف الفحم .. كان الضوء الأحمر يسقط على الوجوه فينيرها .. وتبدو اللحى الكثة والخفيفة والعيون الزرقاء .. والخضراء .. والقمصان المقطوعة .. والملوثة بالفحم والزيت .. وعندما يغلق باب الفرن تعود الظلمة التى تريح الأعصاب .. وعلى ضوء المصابيح الخافتة كنا نجلس إلى ساعة متأخرة من الليل .. بعضنا يغنى .. وبعضنا يتخذ من المكان الفسيح أمام البوفيه مرقصا .. فيسحب فتاة ويرقص .. على أنغام الجرامافون .. أو الراديو .. أو المندلين ..
وكان بعض الرجال فى السفينة يغازلون النساء بالقول والعمل .. وقد ينقلب الغزل إلى معركة بالأيدى .. ولكنها تنتهى سريعا بالضحك الطويل ..
وكانت تنظف لى قمرتى فتاة تدعى هيلينا .. وكانت قبيحة وتبدو كلها عضلات كلاعبة الباسكيت بول .. كما كان يأتى رجل آخر فى الساعة الثامنة من كل صباح ويغسل أرض القمرة بالفرشاة والصابون ..
وكان هذا كله من ترتيب " برتو " وعمله .. لأنه كان يسألنى كلما وجدنى على السطح إن كنت مستريحا ..
وعندما يأتى العامل ليغسل القمرة فى الصباح .. كنت أترك له كل شىء وأذهب إلى حمام كبير فى الطابق الثانى لأحلق ذقنى وأقوم ببعض التمرينات الرياضية وأستحم .. وعندما أعود يكون الرجل قد فرغ من عمله أو فرغت هيلينا من عملها كذلك وحملت إلىّ طعام الافطار ..
وكان الرجل الذى يغسل القمرة .. يرتدى ملابس البحارة .. وكنت أراه يعمل كل الأشياء .. وكان غير حليق .. ولكنه يبدو شابا من نظرة عينيه وقوة عضلاته .. ويبدو أن زملائه البحارة استغلوا هذا وحملوه مالا يطاق من العمل ..
فكنت أراه يغسل جوف السفينة ويمسحها بالفرشاة والصابون .. ويشترك مع طابور البحارة الصباحى الذى يغسل ظهر السفينة وقمراتها قبل أن يصحو أى راكب .. وينقل الفحم .. ويحمل الأكياس والصناديق .. ويقوم بكل ما يطلب منه .. وكنت أحييه كلما جاء فى الصباح إلى القمرة بهزة من رأسى دون كلام .. لأننى كنت أتصور أنه لا يعرف الإنجليزية أو الفرنسية فلما علمت أنه يعرف قليلا من الفرنسية أخذت أحادثة واستراح الرجل إلىّ وأنس بى .. لأنه كان يعامل من البحارة بخشونة وقسوة وأصبحت أثق فيه ثقة مطلقة وأترك له النقود .. والساعة الذهبية والولاعة فى الغرفة .. وأذهب لأخذ حمام الصباح ..
*** 
وعلمت منه أن له سبع سنوات لم يضع قدمه فى خلالها على الأرض .. وأنه ركب كثيرا من السفن من كل الجنسيات والأنواع .. وحاول النزول إلى البر فى كل الموانى .. ولكنه كان يرد خائبا .. ويعاد إلى نفس السفينة ..
وسألته :
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى لا أحمل أوراقا .. ولا أعرف جنسيتى ..!
ـ مواطن عالمى ..
ـ كلها أرض الله ..
ـ وأين ضاعت أوراقك ..؟
ـ تطوعت فى الحرب الأخيرة .. وأصبت فى الجبهة .. وخرجت من المستشفى .. وأنا لا أعرف من أين جئت .. وماذا يحدث .. نسيت كل شىء .. حتى إسمى ..
وكان يقول هذا وهو يبتسم فى مرارة .. وسألنى :
ـ وأنت تركى ..؟
ـ لا .. إننى مصرى ..
ـ وجواز سفرك مع القبطان ..؟
ـ بالطبع أخذه أول ما وضعت قدمى فى السفينة ..
ـ بغير هذا الجواز لا تستطيع أن تتحرك شبرا فى أوربا ..
ـ أعرف ذلك ..
ـ ورقة صغيرة .. ولكنها تساوى كثيرا ..
ـ هل حاولت النزول إلى البر فى الإسكندرية وأخفقت ..؟
ـ لا .. لم أحاول ذلك .. ماذا يفيدنى الشرق .. وأى شىء أعمل فيه .. أننى أريد أن تعود ذاكرتى وأعود إلى وطنى .. أريد أن أقبل أرض بلادى ..
ـ وهل نزلت فى مرسيليا .. أو جنوا ..؟
ـ حاولت مرارا .. ولكن بعد عشر دقائق يعثر عليك البوليس بسهولة ويعيدك إلى نفس السفينة ..
وأشعل سيجارة .. ونفض رمادها .. وقال :
ـ إن قبطان هذه السفينة .. هو الإنسان الوحيد الذى عطف علىّ .. نظر إلىّ نظرة إنسان .. وأبقانى فى سفينته أربع سنوات .. لم يطردنى أو يلقنى فى البحر وسمانى " مكسيم " .. فنادنى بمكسيم منذ الآن ..
وتصورت حال مكسيم .. وقد ترك زوجته وأطفاله .. ووطنه وأصبح ضائعا .. وأسفت للمعاملة القاسية التى يلاقيها من البحارة ..
ولم أكن أدرى أين ينام فقد كنت أراه يدخل كل القمرات وينظفها .. ويبيع أمواس الحلاقة والصابون والكولونيا .. وكل ما يحتاج إليه المسافر .. ولكنه مع هذا لم يكن يصعد للظهر إلا قليلا ..
*** 
وكان يعاون الفتيات العاملات فى غسل الأطباق والأوانى وكى المفارش والملايات وأراهن حوله فى العمل وأنا ذاهب وراجع .. ولكنه كان يبدو معهن صارما وخشنا كأنه لا يشتهى النساء بصفة عامة .. أو كأنه تركهن إلى الأبد بعد كل الذى حل به من نكبات ..
*** 
ولكن حدث ذات مساء ونحن نستمع إلى الجرامافون .. وقد بقى خمسة أو ستة من الركاب حول الحلبة الصغيرة .. المعدة للرقص .. أن نهضت فتاة وأخذت ترقص .. فقال لى أحد الجالسين :
ـ قم لترقص معها ..
ـ أننى لا أعرف الرقص ..
ـ هذا غريب من شاب .. ولكن على أى حال قم وعانقها ..
ـ ولا هذا ..
ـ ألا تشتهى النساء ..؟
ـ أشتهيهن أكثر من أى شىء فى الحياة .. ولكننى لا أفعل هذا .. قم أنت ..
ـ أننى أحب أن أفرغ من كأسى أولا ..
وفى أثناء غفلة الحديث .. وجدنا الفتاة فى أحضان رجل .. يدور بها فى الحلبة كأبرع راقص على الأرض .. وكان هذا الرجل هو مكسيم .. وقبل أن تكف الموسيقى رأينا سحنة مكسيم تتغير وتتقلص عضلات وجهه .. ثم ترك الفتاة فجأة واختفى ..
*** 
وكانت هناك حفلة سيمفونية تذاع فى الراديو " ليلة الأحد " فصعدت إلى الدور الثانى وجلست بجانب الراديو لأسمعها .. وسهرت إلى الساعة الثانية صباحا .. ولما نزلت وجدت مكسيم يخرج متسللا كاللص من قمرة .. فى الجناح الخاص بالسيدات .. وعرفت رقم القمرة .. وفى الصباح أحببت أن أشاهد وجه هذه المرأة .. فرأيتها وكانت صبية .. وبيضاء ملفوفة .. وشاهدت شيئا كموضع أسنان فى نحرها ..
***  
وحدث فى صباح يوم وأنا راجع من الحمام .. وكانت السفينة قد بارحت ميناء بيريه بعد أن ظلت راسية فيها يومين .. أن تفقدت علبة سجائرى الذهبية فلم أجدها .. فسألت عنها هيلينا .. فقالت بصوت هادىء :
 لقد سرقها " مكسيم " أنه لص .. أصعد وقل لبرتو فى الحال وإلا ضاعت العلبة ..
ولم أشأ أن أفعل هذا لأنى لا أحب أن ألقى التهم دون دليل .. ولا تزال ثقتى فى مكسيم .. لم تتزعزع .. ومن السهل أن يمر أى إنسان ويرى العلبة من باب القمرة المفتوح وتعجبه .. فيلتقطها ويضعها فى جيبه .. من السهل أن يحدث هذا ولا داعى لاتهام مكسيم .. ولكن الظاهر أن هيلينا حدثت برتو عن سرقة العلبة .. لأنه نزل فى المساء ونحن جلوس حول المائدة .. وقال يخاطب البحارة :
ـ إن علبة السيد المصرى الذى يقيم معكم قد سرقت .. وسارقها واحد منكم .. وإن لم تظهر فى الحال ستعرفون ما أفعله ..
ورأيت الجميع ينظرون إلى مكسيم .. كأنه الشخص الوحيد الذى يمكن أن يسرق ..
وظهر الغضب على وجهه .. ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا وسط هذا الإجماع فتندت عيناه بالدموع ..
وقلت لبرتو .. وقد تأثرت لحال الرجل :
ـ إن العلبة لا تساوى هذه الضجة .. وقد أكون تركتها أمس على إحدى الموائد فى الطابق الثانى .. لأنى قضيت جانبا من الليل هناك ..
فهز برتو رأسه ..
وهنا صاحت هيلينا :
ـ أتحبون أن تعرفوا أين العلبة ..؟
وتقدمت وأخرجتها من سترة مكسيم .. المعلقة على مشجب فوق رأسه وأرتها للجميع .. وتقدم برتو ولكم مكسيم لكمة قوية طرحته أرضا ..
وكان مكسيم من القوة بحيث يضرب عشرة مثل برتو .. ولكنه لم يفعل شيئا .. وانسحب من المكان ..
*** 
وفى الصباح التالى لم يأت لتنظيف " القمرة " كعادته ولما قابلته ظهر الاضطراب على وجهه .. فأفهمته أننى لا يمكن أن أتهمه بالسرقة وليعد إلى تنظيف القمرة ..
ـ هل تعرف أن العلبة وضعت فى جيبى ..؟
ـ طبعا .. وأنا لا أشك فى أمانتك ..
ـ شكرا .. ولكننى لا أحب أن أثير مشاكل ..
ـ ولماذا المشاكل ..؟
ـ من السهل عليهم أن يلقونى فى البحر .. فأنا رجل ضائع .. ولا أعرف لى دولة تحمينى منهم .. لقد نظروا إلىّ جميعا كأننى الإنسان الوحيد الذى يمكن أن يسرق .. وما ظنوا بى الظنون إلا لأنى ضعيف .. ومسكين .. وأعمل معهم من غير أجر لآكل وأعيش .. أننى آكل من فضلات طعامهم .. لقد أذلونى ومرغوا انسانيتى .. فى الأوحال لأنهم يعرفون أننى مضطر .. أنهم يأووننى ..
ولكن لن أقبل هذا الذل .. سأنتحر .. وأخيرا تأتى هيلينا وتسرق العلبة وتضعها فى جيبى ..
ـ ولماذا تفعل هذا ..؟
ـ لأننى لا أبيع جسدى لهذه القبيحة .. لا أحد يفكر فيها كأنثى ..
***  
ووقفت ذات يوم فى مقدمة السفينة أرقب قرص الشمس وهو يغيب فى جوف البحر وقد سحرنى المنظر عن كل ما حولى .. ولما غابت الشمس وتلفت وجدت مكسيم يحمل كرسيا طويلا ووراءه سيدة ..
ووضع الكرسى بجانبى وجلست السيدة .. وكانت شقراء .. وجاوزت سن الصبايا ولكنها كانت عارية الذراعين والصدر .. وتتزين زينة بنت العشرين ..
وانسحب مكسيم بعد أن ألقى إلىّ بالتحية .. وعاد بعد قليل يحمل لها وشاحا من حجرتها وضعته على كتفيها وشكرته .. ثم قالت له .. وقد وضعت فى فمها سيجارة :
ـ اطلب لى ثقابا من هذا السيد ..
وأشارت إلىَّ ..
فتقدمت وأشعلت لها السيجارة بولاعتى .. وانصرف مكسيم .. وتلفتت إلىّ .. وقالت بالإنجليزية :
ـ مسكين ..!!
ـ من ..؟
ـ ذلك الجنتلمان ..
وأشارت إليه وهو يمضى ..
ـ وهل قص عليك قصته ..؟
نعم .. وأنها محزنة .. وأنه لرجل تعيس ..
فأدركت أنه يحكى قصته لكل من يلتقى به من الركاب ..
وسألتنى الأمريكية .. وكانت لا تزال ممسكة بالسيجارة .. وبدا لى من عينيها أنها خارجة فى التو من البار :
ـ هل اقتربنا من البسفور ..؟
ـ بقيت ليلة ..
ـ هل سافرت فى هذا الخط من قبل ..؟
ـ أكثر من مرة ..
ـ وركبت مثل هذه السفينة ..
لا .. لم أركب مثلها .. ويظهر أنها الرحلة الأخيرة .. لها فى البحر الأبيض .. لأنها ذاهبة بعد ذلك إلى المحيط ..
ـ ومن الذى أخبرك بهذا ..؟
ـ مكسيم ..
ـ ألا تجلس ..؟
وسحبت كرسيا ..
ـ سائح ..؟
ـ نعم ..
ـ دون رفيق ..؟
ـ قد أعثر عليه فى الطريق ..
ـ ألم تعثر عليه بعد ..؟
وأسبلت عينيها .. فلم أجب .. ورأيت أن أغير مجرى الحديث فسألتها :
ـ أذاهبة إلى البسفور ..؟
أجل .. وسأركب اكسبريس الشرق من استانبول ..
ـ وحدك ..
ـ وحدى وقد أعثر على الرفيق فى الطريق ..
وضحكت وبدت أسنانها ..
ـ ما اسمك ..؟
ـ رشاد ..
ـ تركى أو بلغارى ..؟
ـ مصرى ..
ـ إن اسمى جوان .. ألا تشرب .. ويسكى ..؟
ـ أنا الذى سأطلب الشراب ..
ـ كما تحب ..
ـ ولكن فى البار ..
ـ إذن فلنبق هنا قليلا .. فما أجمل البحر .. فى هذه الساعة ..
ـ إننى لم أره وأر جماله إلا فى هذه الليلة ..
ـ وأين كنت من قبل ..؟ إنه جميل كل ليلة ..
ـ كنت فى القاع ..
ووصفت لها القمرة وكيف أخذتها .. فضحكت .. وقالت :
ـ كنت أتصورك من نزلاء الكباين اللوكس ..؟
ـ الحياة دائما تخدعنا ..
ـ ولكنك جنتلمان رغم كل شىء ورغم فقرك .. وأنا أحب صوتك فقط .. وليس القمرة .. وليس شيئا آخر ..
ـ لست مغنيا ..
ـ لم تفهمنى .. أحب صوتك لأن فيه خشونة آسرة وهذا خير من أن أقول لك أننى أحب قامتك الطويلة أو رباط رقبتك .. وأنت ماذا تحب فى ..؟
ـ كل شىء .. شعرك .. ولون عينيك .. ولون شفتيك ..
ـ إنه الروج ..
ـ أحب ما تحت الروج ..
ـ متزوج ..؟
وبلعت ريقى ..
ونظرت إلىّ طويلا .. ثم أرخت أهدابها .. وقالت :
ـ لا داعى لهذا السؤال .. هل رأيتنى وأنا قادمة إلى ناحيتك الآن .. هل رأيتنى من قبل كما رأيتك ..
ـ أجل ..
ـ وكنت ستحادثنى ..؟
ـ بالطبع ..
ـ وكيف تبدأ الحديث ..؟
ـ سأخلق أى سبب ..
ـ وإذا لم تجد ..
ـ أطلب سيجارة ..
وضحكت ..
ـ هذا لا يحدث من رجل لامرأة على الاطلاق .. سأعطيك الآن هذه السيجارة .. وأشعلها لك ..
وجلست معها حتى الساعة العاشرة ليلا .. وأنزلتها إلى قمرتها فى الدور الثالث .. ووقفت على بابها .. فدعتنى إلى الدخول فاعتذرت لها بأننى متعب .. وأود أن أنام ..
ولمحت هى مكسيم .. يحمل صينية فى الممر .. فصاحت فيه :
ـ أطلب لى العشاء يا مكسيم .. وتعال أنت ..
*** 
وفى ظهر اليوم التالى بدأنا ندخل الحدود التركية .. فتمهلت السفينة فى سيرها وأقبل زورق يحمل رجال البوليس التركى .. وصعدوا إلى السفينة .. وأخذوا يتنقلون بين الركاب .. وجلس رئيسهم بجانب القبطان فى الصالون .. يقلب فى الجوازات .. وكانت المسافة إلى استانبول لا تزال بعيدة .. فاختلطوا بالركاب وأخذوا يحادثونهم .. وصعد بعضهم إلى البرج .. وجلس يستريح ..
*** 
وبلغنا استانبول .. وألقت السفينة مراسيها .. وتجمع الركاب على الظهر لينزلوا إلى المدينة .. وكنت آخر من نزل من الركاب .. ولكن كان ورائى شخص آخر ينزل على السقالة .. وقد أحاطت به فصيلة من الجند وكان وجهه صامتا أخرس وعندما نزلنا إلى الرصيف .. مر أمامى وتلفت إلىّ .. وظل صامتا .. لقد كان مكسيم .. وسمعت من يقول :
ـ إنه سفاح .. سفاح نساء .. بدأ بقتل زوجته ..
ـ لا .. إنه جاسوس ..
سفاح .. عاد من الحرب فوجد زوجته فى أحضان رجل آخر .. فقتلها .. وهرب ..
ولكن السيدة الأمريكية لم تكن تسمع شيئا مما يقال .. وكانت تنظر إلى الرجل المطوق بالجند وتقول بالإنجليزية :
" وحوش "
ولم أكن أعرف الحقيقة .. ولكن الرجل على أى حال هبط إلى الأرض كما كان يتمنى .. ولا أدرى أبدأ شقاؤه فى هذه الساعة أم انتهى .. ومهما يكن أمره فهو على أى حال لم يكن مواطنا عالميا كما وصف نفسه ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 189 بتاريخ 8/8/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الأعرج فى الميناء " سنة 1958
========================   
 




















سيدة وحيدة

التقيت بنادية لأول مرة فى الأسبوع الأخير من أكتوبر .. وكانت تقف حائرة فى صالة بنك من بنوك المال بالقاهرة وتنظر فى استرحام إلى الوجوه التى حولها عسى أن تجد من ينقذها .. فقد رفض الصراف أن يصرف لها صكا تحمله قبل أن يتحقق من شخصيتها ..
ورأيتها وهى تجول نصف جولة فى صالة البنك .. ثم ترجع إلى الشباك وتقول .. بصوت يغلب عليه التأثر :
ـ إنى لا أعرف أحدا هنا ..
ـ وأنا لا أستطيع أن أصرف لك الشيك .. آسف ..
وتركها الرجل وعاد إلى عمله ..
وأشفقت على السيدة فقد رأيت عينيها مخضلتين بالدمع .. وتقدمت من الشباك وأنا أقول :
ـ أنا أعرف السيدة .. أنها تسكن معى فى نفس الشارع ..
وقدمت جواز سفرى ..
فتناوله الرجل منى دون أن ينبس ..
وناول نادية النمرة فى الحال وابتعدت .. ولكنى لم أبرح البنك .. جلست على كرسى فى البهو لا يبعد عن المكان لأننى كنت أود أن أؤكد للرجل بصورة لا تحمل الشك أن الحركة ليست مسرحية .. وأنه لا دخل للعواطف فى الموضوع .. كما كنت أود أن أطمئن عليها حتى يصرف المبلغ .. وأخرجت من جيبى دفترا .. وأخذت أدون فيه شيئا كأننى أراجع عملية حسابية .. حتى رأيت السيدة تضع الجنيهات فى يدها .. وقبل أن تجتاز السلم الرخامى رأيتها تتلفت كأنها تبحث عنى .. فلما لم تجدنى خرجت مسرعة ..
وفى الساعة التى اختفت فيها عن نظرى .. أدركت أننى تهورت .. وأن عملى يدل على حماقة بالغة .. فمن الجنون أن أضع اسمى بجانب سيدة لا أعرفها .. ومن المحتمل أن يكون الشيك مزورا أو مسروقا وحتى وإن كان من زوجها .. فإن المسألة لا تخلو من المتاعب .. ثم تذكرت أنها كانت تلبس ثوب الحداد .. فاحتمال أن تكون أرملة أقرب إلى العقل .. وأنها جاءت لتصرف معاشا أو مكافأة عن زوجها الراحل ..
وقد خفف هذا الخاطر من حدة القلق .. ولكنه لم يبعده كلية ..
ورأيت أن أستعيد صورتها كاملة جملة وتفصيلا .. حتى أجعلها ترسخ فى مخيلتى .. إذ ربما أحتاج إليها يوما ما ..
كانت ترتدى فستانا أسود .. طويل الأكمام .. وكان وجهها أبيض جميل التقاطيع .. وعيناها فى لون شفتيها .. وبسمتها خفيفة .. وكان رأسها عاريا .. وشعرها يغطى قرطها ..
وكانت مشيتها سريعة .. وحذاؤها أسمر .. وجوربها يغطى مفاتن الساق ..
وكانت سنها لا تتجاوز السابعة أو الثامنة والعشرين وصحتها بوجه عام جيدة .. ومن مميزاتها " حسنة " فى حجم العدسة على الخد الأيمن .. وضمة فى الزاوية اليسرى من الجفن ..
وابتسمت وأنا أستعيد كل هذه التفاصيل .. كأنى أقف أمام المحقق لأروى كل ما حدث ..
*** 
ومر الشهر الباقى من الخريف وشهور الشتاء .. وبدأنا ندخل فى الصيف .. وفى صباح يوم تلقيت حوالة بريدية باسمى من ابن خالى بهجت فى بنى مزار لأصرفها وأعطى قيمتها لابنه إبراهيم .. لأنه يريد أن يشترى كتبا للامتحان .. وكان ابنه فى كلية الهندسة ويسكن فى المنيرة .. فلما ذهبت إلى بيته علمت أنه انتقل إلى الروضة .. ولعنته لأنه انتقل دون أن يخبرنى ولأنه دائما يسبب لى المتاعب هو ووالده .. كنت لا أحب هذا المشوار .. لأن المواصلات كانت فى غاية السوء ..
ولكن مجرد ذكر الامتحان والكتب جعلانى أسرع إلى هناك ..
وعرفت البيت بمشقة وبعد بحث طويل .. وكان البيت فى نهاية الشارع وفى جهة ساكنة كأنها خالية من السكان .. وسألت " مكوجيا " عن إبراهيم فعلمت أنه يقيم فى شقة صغيرة فى الدور الأرضى من المنزل ..
ونقرت على الباب أكثر من ثلاث دقائق فلم يرد علىّ أحد .. وأخيرا نزلت إلىّ خادمة عجوز من الدور العلوى .. وقالت :
ـ الأفندى خرج ..
ـ راح فين ..؟
وسمعت صوتا آخر .. صوتا ذكرنى بشىء قديم ..
ـ بيذاكر بره ..
ورفعت رأسى فرأيت وجها أبيض كنجمة الصبح يتكىء على الدرابزين .. ونظرت إليها .. ورأيت الحسنة على الخد .. والضمة فى الجفن وعرفتها .. وكانت قد رأتنى وعرفتنى من اللحظة التى وقفت فيها أنقر على الباب وأرجع إلى الوراء وأتلفت .. باحثا عن إبراهيم ..
ولم أرفع بصرى إليها هذه المرة وهى متكئة على الدرابزين فقد رأيت الساق من غير جورب عارية ومسترخية ..
وقالت ضاحكة :
ـ داحنا ساكنين صحيح فى نفس الشارع وأنا مش عارفه ..!
وضحكت وعجبت لتصاريف الأقدار ودعتنى لأستريح حتى يعود إبراهيم فاعتذرت لكثرة مشاغلى .. وتركت لها المبلغ الذى أرسله والده ..
ولم أركب الترام ولا الأتوبيس فى العودة .. مشيت على البحر ..
*** 
وكان من عادتى أن أزور إبراهيم بعد الامتحان .. لأطمئن على النتيجة .. وأكتب لوالده ولكننى زرته قبل أن يمتحن لأعرف أحواله ولأرى نادية ..
وأعرف بعض الشىء عنها بطريق غير مباشر من حديثى فى مختلف الشئون مع إبراهيم .. وعلمت أنها أرسلت له النقود مع خادمتها زكية .. وأنه لم يرها سوى مرة واحدة وهى نازلة على السلم .. ولم يواجهها أو يحادثها قط ..
ومن زياراتى الأخرى علمت أنها أرملة .. وتوفى زوجها منذ سنتين فى هذا المنزل وأنها تعيش من معاش ضئيل ..
ولم أجد سببا معقولا لكل هذا الفضول .. فإن مجرد وضع إسمى على صك باسمها لا يعنى أن أطلق وراءها العيون .. ولكن تحدث أشياء كثيرة فى الحياة يعجز المرء عن تفسيرها ..
وكنت فى ذلك الوقت أسكن فى العباسية الشرقية وأعيش مع زوجتى وأولادى .. عيشة رضية ..
ولم أكن أشكو من فراغ فى البيت أو قلق فى العمل ..
وكانت عواطفى مشحونة بالحب لزوجتى وأولادى .. وليس هناك من ثغرة لانسان آخر .. ومع هذا وجدت نفسى أدور حول الصك وصاحبته ..
*** 
وكان من عادة إبراهيم أن يخزن العفش مع رفاقه من الطلبة فى غرفة رخيصة يؤجرونها معا .. خلال العطلة الدراسية .. اقتصادا فى المصاريف ..
فلما ذهبت إليه لأسوى أموره مع صاحب البيت .. قابلتنى نادية .. ولما علمت بالعزال أظهرت رغبتها فى أن تأخذ عفش إبراهيم عندها لأن شقتها واسعة وستعفيه من أية مصاريف .. فشكرتها .. وتحت الحاحها قبلت وفى نيتى أن نرد لها هذا الصنيع بهدية يحملها لها إبراهيم عند عودته من البلد ..
وأخذت زكية وإبراهيم ومعهما حمال .. ينقلون العفش إلى فوق ..
وجلست مع نادية فى مدخل شقتها نتحدث وننتظر العفش ..
وكانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم نادية مواجهة .. ويدخل عتبة بيتها .. فلما قالت له ضاحكة :
ـ إيه .. كله .. دا .. يعنى دا عفش عروسة .. مش عفش تلامذة ..
ارتبك وظهر على وجهه الخجل .. والواقع أن ابن خالى بهجت .. كان يحب ابنه إبراهيم ويدلـله ويأتى له بأكثر مما يحتاج إليه .. وزاد عطفه عليه بعد وفاة والدته ..
وبعد أن فرغ إبراهيم من نقل حاجاته .. وجلس بجانبى .. يشرب عصير الليمون كان فرحا .. لأنه سيظل فى البيت الهادىء الذى اختاره بنفسه .. وزاد فرحه لما قالت له نادية :
ـ إن شاء الله لما ترجع فى أكتوبر .. ستجد شقتك محجوزة لك .. واللى حيسأل عنها حنقوله سكنت ..
ونظر إليها مسرورا .. وسلمنا عليها وخرجنا .. وسافر إبراهيم فى مساء اليوم نفسه إلى البلد .. ولم أجد مبررا للذهاب إلى بيت نادية فى غياب إبراهيم .. فانقطعت عن الزيارة ..
                                  ***         
وعاد إبراهيم ومعه والده فى أوائل أكتوبر ليدفع له المصاريف ويشترى حاجاته .. ووجد إبراهيم شقته خالية .. فأنزل عفشه فيها كما كان .. وكان من عادة بهجت .. كلما جاء إلى القاهرة أن ينزل فى بيتى ..
ولكنه فى هذه المرة نام فى بيتى ليلة واحدة .. وفى الليلة التالية .. لم يأت .. وأصبح ينام مع ابنه إبراهيم ..
وكنت أعلل ذلك بقرب البيت من كلية ابنه خصوصا وأنه سيدفع له المصاريف بنفسه .. وبقربه من ملاهى الجيزة .. التى يحب بهجت أن يقضى لياليه فيها ..
ولكن جاءنى بعد أسبوعين وعرفت منه السبب الحقيقى .. جاء يستشيرنى ليتزوج نادية .. فقلت له :
ـ عرضت عليها الموضوع ..
ـ أبدا .. أنا شفتها مرتين عرضا .. وكلمتها مرة .. عاوزك أنت اللى تتكلم ..
وأحسست من مجرد سماعى هذه الكلمات بالألم .. أحسست كأننى كنت أحتجز نادية لنفسى فلما تقدم هذا الرجل إليها قبلى تركتها  له .. أحسست بهذا الإحساس أنا الرجل المتزوج ذو الأولاد .. ولم أستطع حتى أن أخفى إنفعالى عن وجهى ..
ولكن بهجت الرجل الريفى لم يلاحظ انفعالى ..
وأخذت أزنه كرجل يتقدم إلى سيدة من عشيرتى .. فإن نادية كانت قد امتزجت بدمى دون أن أمهد لذلك بشىء من عواطفى أو أن أتقدم من جانبى بخطوة .. شىء حدث فى الخفاء ولم أحس به ..
أخذت أزنه .. كرجل يتقدم لامرأة أعطف عليها العطف كله .. فهو رجل أرمل فى الخامسة والأربعين ماتت زوجته الأولى من أربع سنوات .. ولم يخلف منها سوى إبراهيم وهو فى السابعة عشرة من عمره .. وغدا سيتخرج .. ويصبح رجلا وتنقطع علاقته بأبيه .. وبهجت رجل ميسور .. وهو لا يقامر .. وبعد وفاة زوجته .. كان يسهر فى بعض الملاهى ويشرب قليلا من الخمر .. ولكنه سيقلع عن هذه الآفة بعد الزواج ..
ووجدت نفسى أتقدم إلى نادية وأعرض رغبة بهجت بكياسة وهدوء ..
فنظرت إلىّ قليلا :
ـ أنى سعيدة .. بحياتى هكذا ولم أفكر فى الزواج ..
فلما قلت لها أنه رجل ميسور وليس معه أولاد خلاف ابنه .. إبراهيم .. قالت بانفعال :
ـ هو أنا بقرة علشان يشترينى ..
فتركتها ..
                                  ***        
ولكننى عاودت معها الحديث فى الموضوع فى الزيارة التالية .. بعد أن رأيت رغبة بهجت الشديدة فى هذا الزواج ..
فقالت بغضب :
ـ هو أنت خاطبة يا صادق أفندى ..؟ ماتجوز نفسك الأول ..
بلعت ريقى .. 
فقد خاطبتنى بكلفة وغضب .. وكنت أود أن أهمس .. وأقول :
ـ أننى متزوج ..
ولكننى لم أنطق .. وأدركت من هذا .. أنها لم تسأل إبراهيم عنى .. وربما لا تقابله قط فى غيابى .. وقد عللت ذلك بخجل الغلام الشديد .. ولأنها أرملة محافظة تحب أن تحافظ على سمعتها ..
وأقسمت ألا أفاتحها فى هذه المسألة مرة أخرى .. ولكن بهجت لم ييأس .. بقى فى القاهرة .. مقيما فى شقة ابنه .. ثم سافر إلى بنى مزار على أن يعود بعد أن ينجز أعماله هناك ..
وظل يتردد بين القاهرة .. وبنى مزار ..
ومرت شهور واقتربنا مرة أخرى من الصيف .. ومن الامتحان .. واعتكف إبراهيم ليذاكر ..
وطلبنى والده عصر يوم فى التليفون .. وسمعته يقول :
ـ عاوزك ضرورى ..
ـ إذا كان علشان المسألة إياها .. أنا متكلمش فيها تانى أبدا ..
ـ أبدا .. علشان إبراهيم .. عاوزين نوديه للدكتور عبد العزيز إسماعيل صاحبك .. الواد تعبان ..
ـ دا من المذاكرة .. سيبه ما تشغلش نفسك ..
ـ أعمل معروف .. تعال ..
وكنا فى بداية الصيف .. فأخذت معى ابنتى سعاد .. لأجلس بها ساعة على النيل .. وفى شارع الأخشيد .. رأيت نادية مقبلة من بعيد .. وحيدة كما أراها دائما ..
ولما اقتربت .. رأت الشىء الصغير الذى يتوثب بجانبى ليلاحق خطوى .. وحدقت ثم سدرت .. ثم ارتعش فمها ..
كان الشبه كبيرا وواضحا بينى وبين ابنتى .. ولم يدع مجالا للشك والسؤال ..
ورأيت نادية تدور بها الأرض كأنها تهوى .. فارتعش بدنى .. ولكنها أتت بحركة بارعة أنقذت بها نفسها .. من السقوط .. فجلست إلى الأرض وضمت الصغيرة إلى صدرها وأطلقت عليها كل عواطفها المكبوتة .. أخذت تغمرها بالقبلات الممزوجة بالدموع ..
وتضحك وتغمغم ..
ـ أبوكى وحش ..
ثم حملتها وذهبت بها إلى بائع شيكولاته فى الشارع ..
*** 
وبعد هذا بأسبوع .. حدثنى ابن خالى بهجت وهو يطير من الفرح .. أن نادية قبلت الزواج منه .. وسيكون الزفاف بعد أيام قليلة فى شقتها ..
***
وذهبت لأحضر الزفاف وأكون شاهدا فى العقد .. وبعد العقد تعشينا .. وهنأنا العروس وكانت الدعوة مقصورة على نفر قليل من الأقارب .. فانصرفوا بعد العشاء .. وأخذت أتهيأ للانصراف ..
فسلمت على بهجت ولما نزلت على السلم فزعت لصوت طلقات نارية انبعثت من شقة إبراهيم .. ونزلت مسرعا ..
ودفعت بابه .. ووجدت الغلام قد أفرغ رصاصة .. فى رأسه .. وأمامه على المائدة .. صورة سيدة قد مزق جسدها الرصاص .. وكانت صورة نادية .. فى ثوب أبيض .. ورفعت الصورة الممزقة سريعا ووضعتها فى جيبى قبل أن يصل إنسان ..
======================== 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 380 بتاريخ 23/6/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الأعرج فى الميناء " سنة 1958
========================
 

الكهـــربائى


     كان عندنا خادم صغير فى البيت اسمه حسن .. وكان عمله مقصورا على شراء الأشياء من السوق .. إذ لم يكن يصلح لشىء سوى هذا .. ولكن هذا العمل البسيط لم يكن يؤديه حتى على أسوأ وجه .. وليس ذلك لأنه كان يسرق .. فقد كان مثالا يحتذى فى الأمانة .. وإنما لأنه كان يخرج فى الساعة السابعة صباحا ليجىء بالافطار .. فلا يعود إلا قرب الظهر .. وكان سوء تصرفه هذا يقع على عاتق زوجتى المعذبة وحدها .. لأننى أتناول فنجانا من القهوة وأخرج إلى رياضة الصباح .. وأولادى يأخذون السندوتش ويذهبون إلى المدرسة .. وتبقى المسكينة وحدها ترقبه من الشرفة .. ولبها مستطار .. وتتحول بكليتها إلى عينين ترقبان أى شىء أسود يتحرك فى الطريق .. وكانت تحدث نفسها :
     ـ أهو جاى .. بس لما يورينى وشه ..
     وتهىء نفسها لتستقبله بالكف .. ولكن لايكون هو .. وتظل فى البيت تدور كالنحلة وتأكل نفسها من الغضب ..
     وعندما يجىء تكون قد بردت كالثلج .. واستسلمت لليأس التام .. وتحولت عاطفتها من الغضب عليه إلى الخوف على مصيره .. وعندما يقرع الباب .. وتراه ممسكا بالسلة الفارغة كما خرج بها تسأله فى صوت خافت :
     ـ كنت فين يا حسن ..؟
     ـ الفلوس وقعت يا ست ..
     وهو لايكذب فى هذا ففى سبع حالات من تسع يحدث له هذا .. ويحدث بترتيب ونظام ! كأحدث النظريات الفلكية !.
     وكنت عندما أرى زوجتى فى البيت وهى تقفز من النافذة إلى الشرفة .. إلى الباب .. فى لهفة وقلق لاستقباله .. أقول لها :
     ـ لاتشـغلى نفسـك به .. ولاداعى لأن تكلفيه بهذا المشوار ..
     ـ أنا بس خايفة .. أحسن ياكله الترمواى .. مسكين .. يتيم ..
     وهكذا تتحول عاطفتها من النقمة عليه إلى الشفقة به .. ولم أعجب فقد ورثت هذه الطباع الحميدة من والدها ..
                                 ***    
     ولم يكن حسن يفعل أى شىء غير مقبول فى السوق .. لأنه كان لايذهب إلى السوق على الاطلاق .. وانما يجد أى ولد فيجره إلى الحديقة العامة .. وهناك يجلسان تحت الشجرة .. ويضع السلة بجانبه ويخرج من جيبه حدوته من التى تباع بنصف القرش ويقرأ ويتحدث مع الغلام حتى ترتفع شمس الضحى ..
     فقد كانت عنده لذة عارمة فى أن يقرأ هذه الحواديت ويقص ما فيها على الناس .. كان يتحدث إلى البواب .. والمكوجى .. وبائع الثلج .. والخبز .. والخضار .. ويعطل هؤلاء جميعا عن عملهم .. ورغم كل هذه المساوىء فإنه بقى فى بيتى .. لأن قطع اللقمة عن جائع يتيم .. أهون من قتل النفس ..
     ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان .. فقد أصبحنا ذات يوم .. وإذا بحسن يطول نصف ذراع .. ثم أصبحت قامته تمتد ثلاث بوصات يوميا .. دون انقطاع .. وهذا الشىء مروع .. وأصبح ينحنى وهو داخل من الباب الخارجى .. ثم أصبح لايستطيع الدخول على الاطلاق .. وكنت أرى هذا الطول المفاجىء وأغرق فى الضحك وأتألم .. 
     ورأيت أن الحقه بعمل عند صديق لى يملك مصنع نسيج كعامل أو مخزنجى .. وقال لى الصديق .. ان حسن أفسد عمال المصنع جميعا . إذ أنهم يلتفون حوله .. ويأخذ هو يقص عليهم من أحاديثه .. حتى خلب البابهم .. وأخيرا اشتغل فراشا فى بنك من البنوك .. وانقطعت الشكوى منه .. ولكنه لم ينقطع عن زيارتنا إذ كان يزورنا بانتظام فى يوم الأحد وهو يوم راحته ..
                             ***    
     وحدث أن تعطل الجرس الكهربائى فى البيت .. فقلت للخادمة أن تذهب وتجىء بالكهربائى الذى على ناصية الشارع فسمعتنى زوجتى وقالت :
     ـ استنى يا بنت .. حسن جاى بكره ..
     فسألت فى استغراب :
     ـ حسن مين ..؟
     ـ حسن بتاعنا ..
     ـ حسن .. لكن ماعلاقته بالكهرباء ..
     ـ دا بقى كهربائى مدهش ..
     وقرأت على وجهى الانكار ..
     فقالت :
     ـ بكره حيصلح الجرس قدامك ..
     وجاء حسن .. ونظر إلى الجرس ولم يكن فى حاجة إلى سلم .. وعالجه .. ودق .. كما عالج المكواة المتعطلة فكوت .. وعندما أصلح مفتاح الصوت للراديو .. آمنت ببراعته ..
                              ***    
     وأصبح حسن هو الكهربائى الخاص بنا .. فكانت زوجتى تكلفه بأن يغير المصابيح ويركب " برايز " جانبية لكل حجرة .. كما ركب لمبة " سهارى " فى الصالة .. وفى المطبخ .. وفى كل اسبوع كنت أجد تغييرا .. فقد أصبحت العملية .. سهلة .. وأصبحت الدورة الكهربائية فى البيت هى شغل زوجتى الشاغل ..
     وذات يوم جئنا بنجفة كريستال جديدة وركبناها فى الصالة .. ولكننى وجدت هذه النجفة منقولة فى اليوم التالى إلى غرفة الصالون .. وفهمت من زوجتىأنها رأت أن تنقلها إلى الصالون لتناسب الطقمم .. وتنقل نجفة الصالون إلى الصالة .. وعلمت طبعا أن الذى قام بهذه العملية هو حسن الكهربائى الخاص .. ولم أعر المسألة أهمية .. وإنما فكرت فى التطور الذى يحدث للإنسان .. فإن هذا الغلام البليد الخامل الثرثار .. قد تطور .. وأصبح كهربائيا ممتازا معتمدا على ذكائه فقط .. فهو لم يتعلم هذا الفن فى مدرسة ! ومن يدرى ربما يصبح أمرسن آخر .. او جراهام بل .. أو حتى استفنسون .. يجب ألا نيأس من صلاحية أى إنسان للحياة .. كنت أحاور نفسى بهذا ومثله وأنا جالس مع زوجتى وأطفالى وقد جمعتنا الشرفة فى الليلة التاسعة من رمضان .. عندما سمعنا دويا وانفجارا أعقبه ظلام تام فى البيت فقد سقطت النجفة التى ركبها حسن ولم يبق منها شىء .. وحمدت الله على أن الخادمة كانت بالرضيع فى المطبخ بعيدا عن مكان الانفجار ..
=================================    
نشرت القصة بصحيفة الجمهورية فى 3|6|1955 وأعيد نشرها فى مجموعة الأعرج فى الميناء 1958
================================= 





















الصورة الناقصة

       ركبت المترو ذات ليلة من نفق جنزا .. وكنت أود أن أقوم بجولة ليلية تحت المدينة الكبيرة .. وأرى ضواحى طوكيو تسبح تحت أضواء الأرض والسماء .. أرى الفوانيس الحالمة على واجهات المنازل ترسل الأنوار الحمراء والزرقاء .. وتحكى بأشكالها قصص الأساطير ، والبالونات من كل الرسوم والألوان تشع بالأنوار ويتساقط عليها المطر .. فيصقلها ويزيدها توهجا وبهجة .. ونزلت من القطار .
     ولما وصلت نهاية الجولة .. غرقت بكل حواسى فى هذا الجمال .. ونسيت نفسى حتى انقضى جزء كبير من الليل .
     ووجدت مطعما على الطريق .. وكنت أحس بالجوع الشديد .. وأخاف ألا أجد طعاما فى الفندق الذى نزلت فيه فى مثل هذه الساعة من الليل .
     فدخلت المطعم .. وطلبت وجبة عشاء يابانية كاملة .. وأحسست بالدفء والجمال حولى .. فأكلت متمهلا .. ولما فرغت من الطعام .. وخرجت إلى المحطة .. وجدت أن القطار الأخير قد مر منذ أربع دقائق .. فاستأت وتملكتنى الحيرة ..
     وأخذت أروح وأجىء على الرصيف .. وأنا أفكر فى وسيلة أعود بها إلى المدينة .
     وخرجت إلى الشارع لأسأل رجل البوليس .. وكانت المنطقة كلها لا تزال تتلألأ بالأضواء الحمراء والخضراء والزرقاء .. كأنها حبات الزمرد .. والياقوت .. والمرجان .. على صدر حسناء .
     والحوانيت لا تزال ساهرة .. والحركة فى الشارع المجاور للمحطة على أشدها .. وشاقنى المنظر كله وأخذ يلبى .. ولكننى أحسست بوطأة البرد وأنا فى العراء .. وتحت السماء المقرورة .. فتحركت أحتمى بالمساكن .. ولم أر أحدا من رجال البوليس أمامى ، ورأيت شابا يتحرك فى الطريق ..
     فتقدمت إليه وسألته بالإنجليزية :
     ـ ألا توجد قطارات الآن إلى جنزا ..؟
     ـ آخر قطار مر منذ لحظات .
     ـ والسيارات ..؟
     ـ تستطيع أن تركب تاكسى .. ولكن هذا سيكلفك أكثر من ألف ين .. وتستطيع بأقل من هذا المبلغ أن تقضى الليل هنا .. وفى الصباح تذهب بالقطار إلى حيث تريد ..
     ـ أتوجد فنادق رخيصة هنا .. فليس فى جيبى الآن .. سوى " ينات " قليلة.
     ـ يوجد فندق واحد .. وستذهب إليه وأرجو أن يروقك ..
ومشيت مع الشاب صامتا .. ثم أخذنا نتحدث وقطعنا جولة كبيرة .. ولما بعد بى عن الشوارع الرئيسية ودخل فى الحوارى الضيقة القليلة الضوء المملوءة بالحانات وأماكن اللهو . توجست منه شرا .. وخشيت أن يكون قد تصورنى أمريكيا .. وأنه يقودنى الآن إلى الهلاك .. فعرفته بجنسيتى ..
      وقال مبتسما :
     ـ أعرف أنك من الشرق ..
     ـ من مصر .. ونحن أصدقاء .. ونحبكم .
     ـ هذا طبيعى .. ونحن نحبكم أيضا ..
     ـ بلادكم جميلة .. كأنما يرسم خطوطها وألوانها رسام عبقرى .. كنت أتوقع أن أرى الثلوج لأرسم لوحة للشتاء ..
     ـ إنها لا تثلج الآن انتظر شهرا آخر .. هل أنت رسام .؟
     ـ نعم رسام .. ورسمت مشاهد حية .. من حى جنزا .
     ـ طوكيو كلها فى هذا الحى .. هل أعجبك ..؟
     ـ شىء فوق الخيال .. اعتدت أن أشرب القهوة كل صباح فى مقهى صغير لا يتجاوز حجمه أربعة أمتار .. ولكن أى جمال فيه .. وأى فن .. وأى رسوم على الجدران وأى لوحات .. وأى فنان وضع تصميم المكان ..
     ـ يوجد كثير من الفنانين فى طوكيو .. وتستطيع أن تزورهم وترى أعمالهم ..
     ـ هل الفندق بعيد ..؟
     ـ لا .. لقد اقتربنا منه ..
     ودخلنا شارعا صغيرا .. على أبوابه الفوانيس الزرقاء .. وبه أكثر من مرقص ومقهى ورأيت فتاة تقف وراء باب زجاجى دون حركة .. وتصورتها رسما على الزجاج .. فوقفت أمامها . من الخارج .. أتأمل .. فلوحت لى بيدها تدعونى للدخول .. فوقفت مبهوتا ..
     وقال لى الشاب :
     ـ أتحب أن تدخل ..؟
     ـ سأرى الفندق أولا ..
     ورجعنا مرة أخرى فى تيه من الشوارع الضيقة .. وشعرت بقلبى يدق بعنف شعرت بالخوف الحقيقى الذى ينتاب الغريب وهو يرافق شخصا لا يأمن جانبه .. وسواء أكان هذا الخوف له سبب معقول .. أو ناتج عن تلف فى الأعصاب .. فإننى أحسست برعشة .. وغرقت فى دوامة من الرعب القاتل ..
     وأغمضت عينى برهة ثم مشيت مع الشاب .. وأنا أقول فى نفسى لا بد مما ليس منه بد ..
     ولم نبعد فقد دخلنا مرة أخرى فى صف من المنازل الصغيرة المدببة السقوف وعلى واجهاتها الفوانيس .. واجتاز بى عتبة صغيرة من الرخام .. وصعدنا سلمين ثم توقف كاتو .. وأخذ يخلع نعليه .. وأشار بأن أحذو حذوه.. فخلعت نعلى .. واجتزنا صحنا مفروشا بالحصير الجميل ..
     واستقبلنا رجل فى الأربعين مربع عريض الصدر .. وكلمه كاتو باليابانية.. فقادنى الرجل وهو يرحب إلى غرفة مفروشة بالحصير .. والحشيات والوسائد.. وكانت المرتبة مفروشة .. فوق الحصير .. وأرض الغرفة خشبية وترتفع عن الأرض بمقدار ثلاثين سنتيمترا ..
     فسررت جدا من هذا الجو اليابانى الخالص وسألنى صاحب النزل :
     ـ أعجبتك الغرفة ..؟
     ـ جدا .. إنها جميلة للغاية ..
     ـ كنت أخشى ألا تروقك .. لأنه لا يوجد بها سرير ..
     ـ بالعكس .. إنها أعجبتنى أكثر .. كم أجرها فى الليلة ..؟
     ـ ألف ين ..
     ـ حسن .. والشاى والإفطار ..
     ـ هذه الأشياء كلها رخيصة هنا .. ولا تكلف كثيرا .. واطلب ما تحب ..
     ووضعت يدى فى جيبى .. وأعطيت "كاتو" مائة ين .. فأخذها وانصرف مسرعا ..
     وسألنى صاحب النزل إن كنت أحتاج لشىء وكنت أحس بالبرد فطلبت بعض الشاى .. ودخلت علىّ فتاة جميلة تحمل صينية الشاى ووضعته أمامى على الحصير وصبته فى الفنجان .. وأخذت ترحب بى بالكلام والابتسام وانحناءة الرأس .. وأدركت أنى لا أعرف لغتها فزاد ابتسامها .. ووضعت لى الوسائد .. وخرجت وأخذت أتهيأ للنوم .. ولم يكن معى بيجامة .. فخلعت سترتى وتمددت على الفراش .. ولكننى لم أنم .. وكان النزل هادئا .. وليس به أدنى حركة تدل على وجود نزلاء .. آخرين ..
     وأغمضت عينى لأنام .. فعادت إلى ذهنى صورة الفتاة الواقفة على باب الملهى الزجاجى .. وكنت أعرف أن المكان يبعد عنى كثيرا ..
     ووجدتنى أنهض وأرتدى السترة .. وأخرج .. وقلت للرجل صاحب المنزل إننى ذاهب إلى مرقص قريب وسأعود .. وأعطيته أجر الغرفة مقدما حتى لا يتصور أننى أخدعه ..
     وأسرعت إلى الحانة .. ودفعت بابها الزجاجى .. ووجدت ساحتها صغيرة وفى وسطها بار دائرى .. يقف فيه خمس فتيات .. يقدمن الخمر لثلاثة من الزبائن وكان الضوء ضعيفا .. والدخان يملأ جو المكان .. والهدوء يخيم .. واستقبلت بابتسامة وانحناءة من جميع الفتيات .. ولم أكن سكيرا .. ولا أحب شرب الخمر .. ولا أدرى لماذا دخلت وأنا أعرف أنها حانة .. والواقع أننى لم أجد مكانا غيره ساهرا فى الحى كله .. وترددت قليلا أين أجلس .. وظللت واقفا .. ثم رأيت سلما خشبيا صغيرا .. ملاصقا للفتاة الجالسة على الخزينة.. فصعدته سريعا .. ووجدت فى الدور العلوى .. نفس البار الدائرى .. ونفس الضوء الخافت .. ونفس الرسم على الجدران وكان فى البار ثلاث فتيات فقط .. ورجل واحد .. أخذنى بنظرة سريعة ثم عاد لكأسه ..
     ووجدت نفسى أجلس أمام واحدة من الفتيات .. ولعلها جذبتنى بقوة المغناطيس الذى فى عينيها وكانت ترتدى صديرا من الصوف الرمادى .. وبنطلونا أحمر .. كأى فتاة أمريكية من برودواى .. وجلست أنظر إلى عينيها برقة .. كانت وادعة .. ولا يبدو عليها أنها من فتيات البارات .. وأدركت أننى لهذه الوداعة اخترتها .. الغريب يلجأ دائما إلى منطقة الأمان .. ووضعت الفتاة أمامى صحنا من البطاطس المحمر .. ولم تسألنى ماذا أشرب .. ولعلها عرفت أننى لا أشرب على الإطلاق .. وكانت عيناى تسبحان فى الزجاجات التى أمامى تقرأ الأسماء فى هذا الضوء الخافت .. ورأيت بالونة زرقاء مكتوب عليها .. نبيذ وحسان .. فى كل الأركان الدائرة .. وتذكرت أن هذا هو اسم البار ..
     وعاد نظر الفتاة على وجهى وسألتنى برقة :
     ـ لماذا لا تأكل .. أأجىء لك ببعض الكبد والقلوب المشوية ..
     فقلت وأنا أنظر إلى عينيها ..
     ـ أجل .. مع كوب من النبيذ ..
     ـ أحمر ..؟
     ـ أحمر ..
     ووضعت الكوب أمامى .. ونظرت إليها .. لم أر فتاة فى مثل جمالها .. لا فى بوخارست ولا فى وارسو .. ولا فى برلين .. ولا فى بودابست .. ولا فى استنبول .. ولا فى هونج كونج ..
     وقلت لها وأنا أرفع الكوب إلى شفتى :
     ـ ألا تشربين شيئا ..؟
     ـ سأشرب ..
     وجاءت بشىء أحمر فى قعر الكوب .. ورفعته إلى شفتيها .. تناولت عشر قطرات لا أكثر .. ونظرت باسمة .. أدركت أنها لا تشرب الخمر .. وتعجبت لوجودها فى هذا المكان .. وأدركنى العجب أكثر .. منذ محادثتها فقد بدت على ثقافة عالية ولم تكن تدفعنى إلى الشراب أو تطلب لى المزيد منه كفتيات الحانات .. بل كانت تتركنى بكل حريتى .. وعندما طلبت لها كأسا أخرى رفضت ..
     وقالت :
     ـ واحد يكفى .. المهم أن نجلس ونتحدث ..
     وسألتنى :
     ـ متى جئت طوكيو ..؟
     ـ منذ يومين ..
     ـ ونازل فى أى فندق ؟.
     ـ فلم أتذكر اسم الفندق وبحثت فى جيوبى عن البطاقة المكتوب فيها الاسم فلم أجدها .. وفتحت فمى كالأبله ..
      وقلت لها :
     ـ لا أعرفه ..
فضحكت ..
     ـ أتعرف كيف تذهب إليه وحدك ..؟
     ـ أبدا .. اعتدت أن أعطى البطاقة للسائق .. وهى مكتوبة باليابانية ..
     ـ هل اسمه .. إمبريال .. نيوكوهاما .. جيانسو .. نيكاسيو .. دايتشى .. الإمبراطور ..
     وعددت لى مئات الأسماء .
     ـ أبدا ..
     ـ وكيف ستهتدى إلى حوائجك ..
     ـ فى الصباح .. سأتصل بشركة السياحة .. وهى التى تعرف اسم الفندق ..
     وعاد إلى قلبها الضحك ..
     ـ إن هذا ممتع .. وأين ستقضى هذه الليلة ..؟
     ـ فى فندق قريب منكم على الناصية ..
     ـ آه .. عرفته ..
     ـ هل أطمع فى جولة حول المدينة بصحبتك غدا .. ؟
     ـ آسفة لا أستطيع ..
     ـ وكيف أراك ..؟
     ـ هنا فقط ..
     ـ إن بلدتكم جميلة .. لا يشبع الإنسان من جمالها ..
     وهنا رن صوت ..
     ـ إنك لم ترها وهى مضروبة بالقنابل .. كانت حطاما .. ضربها الأنذال بكل ما لديهم من قوات الجو ..
     وتلفت فوجدت الرجل الذى كان يسمر هناك فى الظلام .. ولقد نسيته.. وكان يتكلم الإنجليزية بطلاقة ..
     ـ إن هذا كان ردا على بيرل هاربرد .
     ـ لا .. إنك لم تر طوكيو .. فى ذلك الحين .. لم يحدث لمدينة كما حدث لها من الضرب الوحشى المركز ..
     ـ ولكنها الآن تبدو كأجمل الحسان ..
     ـ بقوة سواعدنا بنيناها من جديد .. إن طوكيو .. هى اليابان كلها .. هات كأسا للسيد ياهينا .. ولنشرب نخب طوكيو .. ونخب الشرق كله ..
     فرفعت الكأس إلى شفتى ورفعته الفتاة .. وكانت تبتسم .. وقبل أن ينصرف الرجل انحنى لى ثلاث مرات .. فنهضت عن الكرسى وأخذت أرد له التحية بعدد انحناءاته ..
     ودخل بعده أربعة شبان المكان .. وكان أحدهم يرتدى معطفا قصيرا أبيض.. فرأيت وجه الفتاة يتجهم .. وجلسوا حول الفتاتين الأخريين سميا ونلدا يصخبون .. ويضحكون .. وانتهى الجو الحالم الذى كنا نعيش فيه منذ لحظات .. وشعرت بالضيق .. ولاحظت علىَّ هينا الضجر ..
      فسألتنى :
     ـ شعرت بالتعب ..؟
     ـ نعم ..
     ـ الأحسن أن تستريح ..
     ـ وكيف أراك ..
     ـ فى انتظارك غدا ..
    وأخرجت ورقة بخمسة آلاف ين .. وتناولتها الفتاة وهبطت بها سريعا وسمعت صوتها وهى تحاور صاحبة الحان .. وعادت وقدمت لى أربع ورقات كبيرة وبضعة ينات صغيرة ..
     فقلت لها متعجبا ..
     ـ إنك لم تأخذى شيئا ..
     ـ هذا هو حسابك .. إنك لست بسكير ..
     ونظرت إلى عينيها طويلا ..
     فسألتنى :
     ـ ما اسمك ..؟
     ـ لطفى ..
     ـ إسمى هينا ..
     ـ اسم جميل ..
     ونظرت إلى صورة عروس يابانية تغنى بالقيثار .. فى ركن من المكان وقلت لها :
     ـ فكرت فى أن أرسمك بالكومينو .. وأرجو ألا ترفضى لى هذا الطلب ..
     ـ غدا سنتحدث فى هذا .
     وأعطتنى يدها ..
     فرفعتها إلى شفتى ..
     وعندما هبطت إلى الدور الأرضى نظرت إلى صاحبة الحان طويلا وأنا خارج ..
     وقالت برقة :
     ـ شرفتنا يا سيد ..
     وانحنت الفتاة الواقفة على الباب ..
     وقالت :
     ـ شكرا يا سيد .. شرفتنا وآنستنا ..
     وخرجت إلى الطريق .. وأمامى أضواء قوس قزح .. فى السماء والأرض..
***
     وفى المساء التالى لبست « هينا » ثوبا آخر وبدت مجلوة كالعروس من غير أصباغ .. أو أحمر على الشفاه ..
     وقالت :
     ـ هل اهتديت إلى الفندق ..؟
     ـ أجل .. وأفكر فى نقل حوائجى إلى هذا الحى ..
     ـ لماذا .. ؟
     ـ لأكون قريبا منك ..
     وضحكت ..
     ـ عشقتنى بمثل هذه السرعة .. إننى أقيم هناك مثلك ..
     ـ ولكنك تعملين هنا ..
     ـ يمكنك أن تجىء من السابعة وتبقى إلى ما بعد منتصف الليل .. وفى هذا الكفاية ..
     ـ كما تحبين ..
     ولم يكن بالمكان العلوى أحد سوانا .. وكانت الفتاتان الأخريان أكثر رقة مما قدرنا .. فقد تركانا وحيدين وهبطتا إلى الدور الأرضى ..
     وقلت للفتاة ..
     ـ أى صورة ..؟  أرسمك .. وأنت لابسة الكومينو ..
     ـ ليس عندى كومينو ..
     ـ سأشتريه لك .. وأعطيك خمسة آلاف ين على الرسم ..
     وخرجت منى هذه الكلمات كالقذيفة بحكم الصنعة .. فاحمر وجهها ..
     فتركتها دقيقتين ثم سألتها :
     ـ ما رأيك ..؟
     ـ دعنى أفكر ..
     ـ ها هو عنوان الفندق .. وسأنتظرك فى البهو غدا فى الساعة الحادية عشرة صباحا ..
     ـ سأجىء فى الرابعة بعد الظهر ..
قالتها برقة .. وكنت أود من فرط السرور أن أطوقها بذراعى ..
***
     وفى الساعة الرابعة مساء رأيتها تدفع الباب .. كانت تلبس جاكتة وجونلة زرقاء وزادها هذا نضارة .. واستقبلتها فرحا .. وكانت خجلى بعض الشىء ثم زايلها الخجل بعد أن شربنا الشاى وتحدثنا .. ثم صعدنا إلى غرفتى.. وأريتها الكومينو الذى اشتريته لها فسرت به .. ودخلت وراء الستر لتخلع ثوبها وتلبسه .
وعندما خرجت كانت أجمل ما وقعت عليه عيناى .
     وجلست أمام المرآة تسرح شعرها على الطريقة اليابانية وتبدو فى زينة مناسبة للرداء ومنسجمة معه ..
     وأمسكت بالفرشاة وأخذت أعمل .. وأستريح وأجعلها تستريح وتسترخى .. حتى كانت الساعة السادسة .. وكانت عليها أن تذهب إلى عملها . فودعتها على أن تجىء غدا لنكمل اللوحة .
***
     ولم أذهب إلى الحان فى تلك الليلة .. جلست فى غرفتى .. وهى أمامى على التابلوه .. وكنت أدخن بشراهة .. وأنظر إلى ما تحت الكومينو .. كنت أفكر فى البشرة الناصعة .. وفى صورة لفينوس العارية ..
     كنت أفكر فى صورة أضع فيها كل روحى وفنى .
     وجاءت فى اليوم التالى فى الميعاد .. وجلست أرسم بسرعة .. حتى أتممت الصورة ..
     وقلت وأنا أضع الفرشاة جانبا ..
     ـ هل تساعدينى على أن نكمل هذا العمل .
     ـ كيف ..؟
     ـ أريد أن أرسمك على الطبيعة .. ولا أحد سيراها هنا .. لأنى سأحمل الرسم معى .. ولا أحد يعرفك هناك ..
     ـ لا تقل هذا .. لقد خاب ظنى فيك .. هل أنا محترفة ..؟
     ـ العفو .. إننى أريد أن أرسم عذراء .. وأرسم الخفر الذى على وجهها.. والخجل الذى فى عينيها .. وأنا أراها عارية .. أربد أن أرسم هذا .. وهذا لا يأتى إلا منك .. فلا تحرمينى من هذه المنحة ..
     ـ هناك كثيرات صنعتهن هكذا .. فاذهب إليهن ..
     ـ لا .. أنا لا أريد محترفة .. أريدك أنت وسأعطيك عشرة آلاف ين .. لجلسة واحدة .. وأغمضت عينيها فى غمرة الانفعال تناولت يدها وقبلتها .
     وهمست ..
     ـ سأنتظرك غدا ..
     ـ سأجىء يوم الخميس ..
     وخرجت ونسيت أن تأخذ الكومينو معها .. فضممته إلى صدرى ..
     وفى يوم الخميس جاءت .. وكان العذاب الأكبر لى ولها لأنها رفضت أن تقف عارية تماما .. ورأيت أن أضع غلالة رقيقة على جسمها فى هذه الجلسة.. لأتفادى غضبها وليكون وجهها طبيعيا ومشرقا .. وأرسم فى هذه الجلسة وجهها وجيدها وكتفيها .. وفى الجلسة المقبلة تكون قد اعتادت وأرفع الغلالة وأكمل الصورة ..
     وفعلا رسمت نصفها .. وخرجت مسرعة على أن تعود بعد يومين لتكمل الصورة وتأخذ العشرة آلاف ين ..
     وفى الصباح كنت أتجول فى المدينة .. وخرجت إلى حديقة مشهورة .. فرأيتها بصحبة رجل أعمى فى ممشى الحديقة .. وكان واضحا أنه والدها .. وبعدت عنها حتى لا ترانى ..
     ظللت ألاحظها من بعيد حتى خرجت بالرجل .. وكان عطفها عليه شديدا .. وحنانها لا يصور ..
     وظللت وراءهاحتى أركبته الأوتوبيس وغابا عن ناظرى ..
***
     وذهبت إلى المشرب فى مساء اليوم نفسه .. فاستقبلتنى باسمة .. وقلت لها قبل أن أجلس .
     ـ لقد رأيتك فى الصباح فى الحديقة ..
     ـ أعرف هذا وكنت أود أن أحدثك ولكنك زغت ..
     ـ والآن أنا أريد أن أشرب كوكاكولا .. أو عصير الليمون ..
     ـ إن فعلت هذا سأطرد من هنا ..
     ـ وماذا يحدث لو طردت ..؟
     ـ سيموت أبى من الجوع ..
     وأخضلت عيناها بسرعة .. ونظرت إليها ثم أطرقت .. وفى يدى السيجارة ..
     وقالت وهى تبلع عبراتها ..
     ـ أصيب أبى بالعمى فى الغارات المدمرة على طوكيو .. وأمى عجوز فوق الستين .. وليس لنا معاش .. أو أى شىء نعيش منه .. ولهذا أنا أعمل فى الصباح والمساء فى مطعم أوتاكا وفى الليل أجىء إلى هذا المشرب .. لأوفر لأبى مبلغا من المال .. ليسافر به .. إلى موسكو .. وهناك يسترد بصره فى معهد " فيلاتوف " .. ولقد وفرت مبلغا ، والخمسة آلاف التى أخذتها منك مع العشرة آلاف التى سآخذها غدا ، أكملت ثمن التذكرة وعجلت بسفره إلى هناك .. فأنت الآن إنسان لا ينسى .. جزء من حياتى وسعادتى ..
     وشعرت بقلبى يتمزق .. وقلت لها :
     ـ أرجو أن تسكتى ..
     وأخذت أدخن .. وأحكى لها ما شاهدته ورسمته فى « جنزا » وفى الضواحى وأريتها بعض الرسومات ..
     فقالت باسمة :
     ـ غدا لن تكون وحدك .. سأرافقك فى كل جولة لأنه يوم راحتى ..
     وتصورت نفسى وهى بجوارى رشيقة جميلة كالطاووس .. بشعرها وحسنها .. جالسة معى فى السيارة .. والمترو وعلى العشب فى الحدائق .. وتحت السماء والمطر يتساقط علينا .. وأنا أحميها منه بمعطفى وصدرى .. وشعرت بسعادة .. غيبتنى عن وعيى ..
     وفجأة سمعت موسيقى راقصة فى الدور الأرضى .. وسمعت بعدها ضجة وصعد بعض الشبان اليابانيين إلى الدور العلوى الذى نجلس فيه .. ورمقنى واحد منهم بنظرة قبل أن يجلس .. وطلبوا الشراب .. وجلسوا جميعا يشربون ويصخبون ولم تغير "هينا" مكانها ، ولم تقدم لأحد منهم شيئا ، تركتهم جميعا للفتاتين الأخريين ..
     وجلست حوالى ساعة وأنا أقدر خروجهم ، ولكنهم بقوا يصخبون .. وكان نظرهم يقع على ، ثم يعودون إلى سمرهم .. وحديثهم ..
     ووعدت " هينا " على لقاء فى الصباح .. ثم أخرجت محفظتى وأعطيتها ورقة مالية لتدفع الحساب .. ونزلت إلى الخزينة ولبست معطفى .. ونزلت السلم .. ولما رأيتها لا تزال واقفة على الكيس .. تجادل صاحبة الحان .. انتظرت على السلم .. وكان وجهى إليها .. وسمعت حركة شديدة من الشبان فى الدور العلوى ، ثم ظهر واحد منهم على البسطة العليا من السلم ، وكان يرتدى معطفا أبيض .. ورآنى فأخذ يهبط السلم ببطء وحولت وجهى عنه .. وأنا أحس بهم جميعا يهبطون ، وراقنى منظر رجل سكير أخذ يغنى .. وقد أغلق عينيه .. وفجأة أحسست بيد " هينا " تجذبنى بقوة وتدفعنى بعيدا عن السلم .. وسقط الشاب لابس المعطف بكل قوة .. مدحرجا ومقلبا حتى وصل أرض الحان ..
     وهبط من كان وراءه .. وضرب " هينا " على وجهها بوحشية .. فلم أملك نفسى وصفعته وتشابكنا فى عراك دموى .. واختلط الحابل بالنابل .. ورحت فى غيبوبة ..
***
     ولما أفقت وجدت نفسى مستريحا على كرسى ببدلتى .. وذراعى مربوطة إلى صدرى وكانت " هينا " بجوارى وعلمت أننى فى بيتها .. وأنها حملتنى بعد تضميد الجرح إلى هنا .
     وقالت لى باسمة :
     ـ لماذا ضربته .. كانوا سيقتلونك ..؟
     ـ لو لم أفعل هذا لانشل ذراعى من الغيظ ..
     ـ أعرفت لعبتهم ..؟
     ـ أجل .. كان سيهبط علىّ من فوق بكل قوته كأنه لا يكاد يتماسك من السكر .. فنقع معا على الأرض ..
     ـ وفى أثناء ذلك تطير المحفظة بكل ما فيها من نقود ..
وتحسست جيوبى ..
     وقلت لها :
     ـ لقد طارت فعلا ..
     ـ لا تحزن .. سنستضيفك هنا حتى تسافر ..
     ـ والحمد لله .. إن تذكرة العودة محفوظة فى الفندق ..
     وضحكت هينا ..
     ـ عظيم .. إذن لم تخسر شيئا من جراء هذه المعركة ..
     ـ لن أدخل حانة مرة أخرى فى حياتى حتى وإن كنت أنت الساقية ..
     ـ وأنا لن أكون ساقية بعد اليوم .. سأكتفى بعملى فى المطعم ..
     وتناولت يدها .. وضغطت عليها .. ورأيت عينيها تتألقان بالجمال والحب وظلت ممسكة بيدى .. ثم دفعتها فى جيبها وأخرجت المحفظة ووضعتها فى مكانها من سترتى ..
     وقالت برقة :
     ـ والآن متى نكمل الصورة ..؟
     ـ لن نكملها ..
     ـ كيف ..؟
     نظرت إلى مستغربة ..
     ـ لقد قررت هذا .. قبل أن يقع الحادث .. إن أعظم صورة للفنان هى التى لم تكمل .. لأنها الصورة الوحيدة التى تعيش فى قلبه ووجدانه .
     وتناولت بذراعى السليمة المحفظة وأعطيتها ورقتين بعشرة آلاف ين .. ورفضت أن تأخذ المبلغ .. وتحت الإلحاح الشديد قبلت .. ولما اقتربت من ذراعى الجريح ومسحت عليه بيدها .. وأعطتنى شفتيها فى غمرة عواطفها الجائشة .. قبلت شعرها .. وجيدها .. ولم أشأ أن أطفئ النار المشتعلة فى قلبى..
=================================   
نشرت القصة بصحيفة الشعب 16/11/1958 وأعيد نشرها بمجموعة قصص محمود البدوى " الأعرج فى الميناء " 1958 وبمجموعة قصص من اليابان  من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ سنة 2001مكتبة مصر بالقاهرة
=================================









الحاجز 

كانت سميرة فتاة يتيمة وفقيرة وقد تبنتها السيدة صفية من سن العاشرة وعاشت فى بيتها .. معززة كواحدة من الأسرة .. وكانت ترافقها فى زياراتها لصاحباتها .. وفى كل خطوة تخطوها فى مدينة القاهرة .. وتذهب معها فى كل عام إلى المصيف ..
وكانت السيدة صفية تزور والدتى فى يوم الأربعاء من كل أسبوع .. ومعها سميرة وتبقيان عندنا إلى الساعة العاشرة مساء .. وكانت والدتى تأمرنى أن أرافقهما فى العودة ..
وكانت صفية هانم أرملة تقرب من الستين رقيقة المشاعر عذبة الحديث وفية .. إذ كانت جارة لنا فى العباسية .. فلما انتقلت إلى حدائق القبة حرصت على أن تزورنا فى الأسبوع مرة دون انقطاع .. وكانت سميرة رغم فقرها وشعورها بحالها تدخل بيتنا ضاحكة كوردة الصباح .. وكانت تترك صفية هانم مع والدتى فى الصالون .. وتجلس معى فى البهو .. وأنا أستمع إلى الموسيقى وأقلب فى كتب القانون وكنت أطوى هذه الكتب وأقبل عليها .. وكان يجمعنا الشباب ووحدة المشاعر فى بيت كله عجائز .. وكانت قد اكتسبت عادة ذميمة تعلمتها من السيدة صفية .. عادة تقبيل اليد .. فكانت تقبل يدى عندما ترانى .. وكنت أدفعها عنى برفق وأجذب يدى بسرعة فألمس فى أثناء هذه الحركة صدرها .. وأحس ببراعم نهديها النافرين ..
ـ مش حتبطلى العادة دى ..؟
ـ ما أقدرش ..
ـ لكن .. أنا مش ست ..
ـ مبسلمشى على رجاله غيرك ..
والحق أننى كنت أشعر بلذة محببة لمجرد وضع راحتها فى يدى وأنظر إلى عينيها الباسمتين وأنفها الدقيق .. وشفتيها القرمزيتين .. وأشعر بسعادة غامرة ..
وأصبح يوم الأربعاء من أحب الأيام إلىّ وكنت أترقبه وأحبس نفسى فى البيت من الصباح من أجل هذه الزيارة .. وكنت فى الواقع شبه عاطل .. ولا أؤدى أى عمل على الاطلاق منذ أن حصلت على الليسانس وكنت أفكر فى السفر إلى الخارج لأحصل على الدكتوراة أو أكتفى بالليسانس وأبدأ حياتى العملية بالتمرين عند أحد المحامين الكبار ..
وكان يؤلمنى أنه مضى علىّ أكثر من عامين وأنا أشبه بتنبل من تنابلة السلطان .. والواقع أن الأسرة كان فيها أكثر من واحد من طرازى .. ممن لا يؤدون أى عمل بعينه وينتظرون محصول العزبة ..
وكان أخى عبد السلام مثالا للرجل المتبطل وكنت أخاف من عامل الوراثة وأخشى أن أصبح مثله .. وأعيش كما يعيش .. أعزب منتفخا .. يشكو من الربو والنقرس ويأخذ من المجتمع ولا يعطيه أى شىء .. كنت أراه أمامى وهو يتحرك فى البيت .. وقد تكرش بطنه وترهل وأصبح يثور لأتفه سبب .. ولا يكف عن النزاع مع والتى بسبب النقود .. ثم يتناول عصاه وكوفيته ويخرج إلى القهوة .. ليلعب النرد ..
كانت حياته رتيبه فارغة متعفنة وكنت أخشى أن يكون هذا هو مصيرى المحتوم .. ولكننى كنت أحس بانتفاضة كلما رأيت سميرة وبصحوة وبحيوية تهزنى .. فأقرر أن أذهب فى الصباح إلى مكتب الأستاذ شوكت .. وأتناول منه أى قضية وأذهب إلى المحكمة ولو لأطلب التأجيل ..
ولم أكن أدرك العلة التى تربط سميرة .. بالشعور بتعاستى وضآلتى .. فإنها فتاة فقيرة ولا أهل لها .. وبينى وبينها حاجز أشعر به أكثر كلما تقدمت فى السن .. ولكن وجودها فى البيت كان المصباح المنير لنا جميعا .. لوالدتى المسنة التى تشكو من الوحدة .. ومن وكيل العزبة الذى يسرقها منذ وفاة المرحوم .. ولعبد السلام أخى .. الذى جاوز الخمسين .. ولم يضم إليه امرأة .. هذا هو تقديرى .. ويشعر فى قرارة نفسه بتعاسة الخصيان .. ثم أنا الشاب الذى يفتح صدره للحياة .. ولكن بلا أمل فى المستقبل ..
وكانت صفية هانم فى أكثر الحالات تذهب من عندنا إلى الجيران لتزورهم وكانت تترك سميرة فى بيتنا حتى تفرغ من هذه الزيارة .. وكانت أمى تذهب معها وكنت أبقى مع سميرة .. أتحدث إليها وأخرج بها إلى الشرفة فى أشد الأيام برودة وكانت تسألنى :
ـ مش بردان ..؟
ـ أبدا ..
ـ طيب ورينى إيدك ..
وأعطيها يدى فتمسكها فى راحتها وتضعها على خدها وتغمغم :
ـ باردة زى الثلج ..
وكنت لا أرد وأتناول يدها وأعصرها .. وأنا صامت مستغرق أحس بضربات قلبينا فى هذا السكون .. وكنا نظل على هذا الحال مدة .. ثم أحدثها عن الأفلام التى شاهدتها فى الأسبوع وعن أحلامى وأمانى فى الحياة حتى نسمع صوت والدتى فنفهم أن الزيارة انتهت وأرتدى سترتى لأنزل معهما إلى البيت .. ومع أننى أكره المشى مع النساء فى الطريق .. لكننى كنت أشعر بسرور ولذة وأنا أرافقهما إلى حدائق القبة ..
*** 
ولم أكن أشعر بأى قلق مالى .. وكنت أقدر أننى سأعمل يوما ما ولو بأن أذهب إلى العزبة وأدير شئوننا .. ولكنى كنت مرتبطا بالقاهرة ارتباطا كليا .. لأن والدتى مريضة ولا تطيق البعوض فى العزبة ولأننى كنت ما زلت أفكر فى الذهاب إلى الخارج لأدرس الاقتصاد فى لندن .. ولم أكن أدرى لماذا تراوحنى هذه الفكرة فى ساعة ما .. وتذهب لتجىء وتجعلنى بينها كرقاص الساعة وكشاب فى السابعة والعشرين لم أكن أسكر أو أشعر بأى ميل إلى الخمر .. وكنت أرجع ذلك لعامل الوراثة أيضا إذ لم يكن هناك أحد فى أسرة الشيخ عبد الرازق يسكر على الاطلاق .. ولا حتى أخى عبد السلام وحياته كلها فراغ .. أما النساء فقد مررت بأكثر من تجربة معهن .. تجارب قليلة تعد على الأصابع .. ولم يكن لى الاختيار فى الواقع إذ كن يجئن عرضا برفقة بعض الصحاب من الطلبة .. وكن من البغايا .. ويمثلن لونا واحدا من النساء .. ولكننى على أى حال كونت فكرة ما .. فكرة عامة ..
فلما جاءت أخيرا سميرة تلك العذراء النقية هزت مشاعرى .. ولكن كان هناك الحاجز الطبيعى الذى يقوم بينى وبينها والذى تحس به هى أكثر منى فهى يتيمة ولا تعرف لها أسرة .. وكانت تشعر بالهوان لهذا والذلة .. ولم أكن أقيم وزنا لهذه الفوارق أو أفكر فيها .. ولكننى لم أتخذ معها أى خطوة عملية .. وظللت مترددا حائرا .. وكنت أنظر إلى أخى عبد السلام وقد شاخ قبل الأوان وترهل جسمه وتكرمش وبرزت خطوط وجهه .. وذهب البريق من عينيه وأخاف أن يلحقنى مصيره .. فقد ظل مترددا فى الزواج يقدم رجلا ويؤخر أخرى .. حتى أصبح لا ترضى به أنثى ..
وكانت والدتى تنظر إليه وتتحسر .. وتضع آمالها كلها فى .. وتحاول أن تنقذ الميراث الذى سيؤول إلى وزارة الأوقاف .. ولا شك أنها اختارت لى أكثر من فتاة من قريباتها .. ولكنها لم تفاتحنى فى الأمر .. لأنها كانت تنتظر الوظيفة أولا .. ومرت الأيام ونحن فى الانتظار ..
*** 
وحدث فى أصيل يوم .. وكنت وحدى فى البيت فقد ذهبت والدتى مع عبد السلام .. إلى العزبة .. أن جاءت سميرة وحدها .. فدخلت .. وأخذت تنظر إلى غرفة والدتى وإلى السكون الذى لم تألفه فى البيت ..
ـ أمال فين ماما ..؟
ـ راحت السينما ..
فضحكت إذ كانت تعرف أن والدتى لها عشر سنوات .. لم تر فى خلالها شاشة ..
ـ صحيح .. فين ..؟
ـ فى العزبة كلهم ..
ـ أمال مين بيوكلك ..؟
ـ جايين بكرة ..
ـ صفية هانم تعبانة شوية .. وكانت عاوزة تشوف مامتك .. وتسألها عن دكتور كويس ..
ـ طيب أقعدى ..
ـ لأ ما أقدرش ..
ـ على طول كده .. استريحى حتى من السلم ..
ـ أنت عارف هى عيانة ..
ـ عيانة قوى ..؟
ـ لأ .. لكن أحسن تنشغل ..
ـ أنت لازم خايفة ..
ـ من إيه ..
ـ علشان مفيش غيرى فى البيت ..
ـ هو أنت عفريت ..؟
ولم أكن أدرى أهذا سذاجة منها أم دهاء نساء ..
ـ أقعدى شوية ..
ـ أدينى قعدت ..
وجلست على الكنبة وجلست بجوارها .. وظللنا دقيقة كاملة صامتين ..
ثم انفجرنا بالضحك معا .. وقالت :
ـ ما تتكلم .. ساكت ليه .. راح فين لسانك ..
ـ وأنت عارفه أنا لى لسان معاك .. يبقى أخرس ..
ـ امال حتترافع فى المحاكم إزاى ..
ـ ساعتها بقى آخذ حتة من لسانك ..
وضحكت .. وذهبت إلى المطبخ وقدمت لها كوبا من عصير البرتقال ولم أجلس فى مكانى بجوارها وإنما جلست على حشية على البساط .. تحت رجليها .. فاحمر وجهها وسألتنى :
ـ قاعده ليه .. كده ..
ـ علشان أشوفك كويس ..
وتناولت يدها .. فتركتها فى يدى .. ولما ضغطت عليها .. شدت على يدى كأنها ترينى قوتها .. وخلصت يدها وهى تقول :
ـ غلبتك ..
فابتسمت وأدركت أنها تتعمد اقامة الحاجز الذى بينى وبينها كلما حاولت ازالته .. وظللت أنظر إليها أكثر من ثلاث دقائق .. وأنا أحاول أن أريها فى هذه النظرة أسرار قلبى ..
وقلت بصوت خافت :
ـ تعرفى شعورى نحوك يا سميرة ..
ـ طبعا ومش ضرورى كنت تتكلم ..
ـ وإذا سافرت بره .. تروحى معايا ..؟
ـ أنا ..؟
ـ أيوه ..
ـ بصفتى إيه ..؟
ـ مراتى ..
ـ وأنت عارف أنا مين ..؟
ـ من فضلك بلاش الكلام ده ..؟
ـ وأنت من فضلك أسكت ..
ـ حقول لماما علشان تكلم صفية هانم ..
ـ تبقى مجنون .. أنت عارف إن مامتك تقبل .. إن قلت أى كلام علشانى .. ححرم آجى بيتكم بعد كده .. وما شوفكش أبدا تانى .. فليه تحرمنى من هذه السعادة .. أنا بعيش باقى الأسبوع .. على ذكرى يوم الأربع .. وكله فى صمت .. لا أنت تقولى ولا أنا أقولك .. فليه أفسدت علىّ سعادتى ليه .. ليه بس ..؟
وكان الدمع يجول متحيرا فى عينيها .. فاقتربت منها ومسحت على شعرها .. فنكست رأسها .. ولما رفعت وجهها .. وجدت الدمع يخرق خديها وانحنيت لأمسح عبراتها .. فدفعتنى برفق وجرت إلى الباب وتركتها تنزل ..
*** 
وجاءت بعد أن شفيت السيدة صفية وعادت والدتى من العزبة وكنت نائما فى غرفتى بعد الغروب .. وبابى مفتوح .. وفتحت عينى على صوتها .. وكانت جالسة فى الصالة على كرسى فى مواجهتى ..
رأيتها وأنا مضطجع فى الظلام .. لابسه لأول مرة فى حياتها زيا افرنجيا كاملا .. قبعة صغيرة وضعتها على جانب من الرأس وصديريا من الصوف المقلم وجونلة وحذاء فى لون الجونلة ومن غير جورب .. وخاتما صغيرا من الياقوت .. لمحته فى الأصبع اليمنى .. وكانت ساهمة وحزينة ..
ورأيت أن أبقى فى مكانى دون حراك .. فى الظلام .. وأسمع ما يدور من حديث واستطعت فى خلال هذه الجلسة أن أقرر شيئا حاسما .. قررت أن أذهب إلى الصالة وأن أعلن حبى لسميرة وأخطبها والكل مجتمع .. ولكن بعد دقيقة واحدة غيرت رأيى .. ورأيت أن أخبر أمى وحدها بعد أن تخرج صفية هانم .. وخرجت عليهن .. وكانت سميرة تحاول أن تبدو أمامى باسمة مرحة .. وعندما رافقتها إلى البيت استطعت أن أتناول يدها فى الظلام وأن أرفعها إلى شفتى ..
                                  ***         
وكان أول شىء فعلته عندما رجعت إلى بيتى أن حدثت والدتى عن رغبتى فى الزواج من سميرة .. فقالت وقد صعقت من الخبر :
" سميرة مين يا منيل .. دى خدامة .. ورثت الخيبة من أبوك .. كان برضه يسيبنى .. ويجرى ورا الخدامين .."
وبلعت ريقى من الغيظ وكنت أود أن أصفعها .. ولكننى أشفقت على شيخوختها وانسحبت إلى غرفتى ..
*** 
وانقطعت سميرة عن زيارتنا .. وعلمت أن صفية هانم زوجتها .. عندما شعرت بقرب الأجل ..
*** 
وركبت البحر .. لأتم دراستى وأنسى تعاستى .. وكانت صورة أخى عبد السلام ماثلة أمامى .. بجسمه المترهل وتعاسته وأنانيته .. أنانية الرجل الذى يعيش لنفسه ..
======================= 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 173 بتاريخ 18/4/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الأعرج فى الميناء " سنة 1958
=========================




















الزلزال
         

     سمعت سعاد جرس الباب الخارجى يدق .. ومع أنها كانت جالسة قريبة من الباب .. لكنها لم تنهض إذ كانت تشعر بتراخ وكسل ونادت خادمتها وداد بصوت عال ففتحت هذه باب المطبخ وظهر صوت الوابور .. يغطى كل الأصوات ..
     ـ مش سامعة الجرس ..؟
     ـ أبدا ياستى ..
     ودخلت هدى .. فاستقبلتها سعاد مرحبة .. وقالت هدى وهى تقبل سعاد فى وجنتيها :
     ـ الف مبروك ..
     ـ مرسى خالص ..
     ـ قد إيه فرحت .. لما سمعت من فاطمة هانم .. لازم كده .. منقدرش نستغنى عن الراجل .. مهما كانت الظروف ..
     ـ رأيك كده ..؟
     ـ طبعا ومن الأول .. قلت لك لازم تجوزى يا سعاد .. حرام .. تضيعى شبابك .. وجمالك .. وترفضى عثمان بيه لأنه كويس قوى ..
     ـ آدينى ياستى قبلت ..
     ـ وامتى حنفرح ..
     ـ لما تفوت سنة على المرحوم .. قربنا ..
     ـ نازلة معايا مصر .. أنا رايحه الصالون الأخضر .. حاشوفلى حتتين ..
     ـ متأسفة خالص يا هدى .. النهاردة أول يوم فى المدرسة .. ولازم أستنى حلمى لما يرجع ..
     ـ إحنا راجعين حالا ..
     ـ ما أقدرش .. الصبح وديته المدرسة بنفسى .. وفضلت معاه فى الحوش .. أكتر من ساعة .. وبعد كده وقفت بره السور .. مدة كبيرة .. ولما دخل الفصل عيطت .. ولما جيت هنا قعدت جنب التليفون .. وكل ساعة أضرب للناظرة حاجة تكسف .. ؟
     ـ معلهش علشان النهاردة أول يوم يخرج فيه من البيت .. وبعدين تعتادى على كده ..
     ـ والعياط .. شىء يكسف .. !؟
     ـ عينيك حلوة بالدموع ..
     وضحكتا ..
     وأخذت الصديقتان تتجاذبان الحديث حتى جاوزت الساعة العاشرة من الصباح فانصرفت هدى .. وبقيت سعاد وحدها تنظر إلى الساعة وهى رائحة وذاهبة فى البيت وداخلة من حجرة إلى حجرة دون غرض ولأول مرة فى حياتها شعرت بالفراغ .. بالفراغ المعذب .. وبوحدة المرأة الحزينة التى فقدت زوجها .. وهى فى أول شبابها .. فقد كان ابنها ينسيها هذا وينسيها بألاعيبه وبكائه وجريه فى البيت أنها أرملة وأنها وحيدة وأنها فقدت زوجها .. فقدت الرجل الذى كان يحيطها بذراعيه القويتين وقلبه الحنون .. أحست بالفراغ الكبير وانقبض صدرها وتألم وتحركت فى حجرات البيت ترتب بعض الأشياء الصغيرة .. ثم سمعت جرس الباب الخارجى يدق مرة أخرى .. وتناولت الثلج من البائع ووضعته فى الثلاجة .. ودخلت على خادمتها المطبخ ..
      وكانت سعاد تعد من الصباح الباكر لطفلها طعاما شهيا .. وبعض الحلوى .. كانت تود أن تحتفل باليوم الأول لدخوله المدرسة ..
     وفرغت من كل شىء وهى لاتزال تشعر بالوحشة وانقباض النفس .. وتحركت إلى التليفون .. وأدارت القرص .. فوجدت نمرة المدرسة مشغولة .. فعاودت الدق .. فسمعت انشغال الخط مرة أخرى .. فجلست مكتئبة على كنبة .. وفى يديها خيوط من الصوف تنسج بها " بلوفر " لابنها .. وأخذت تعمل وكانت يداها تتحركان حركة آلية دون وعى ودون حس .. وبعد قليل ألقت خيوط الصوف وعادت تدق للمدرسة .. وشعرت بالخجل يصعد إلى وجنتيها وهى تحادث الناظرة .. وتسأل عن ميعاد الانصراف للمرة الرابعة .. وقبل الميعاد بساعة ارتدت فستانها الأسود وخرجت مسرعة إلى المدرسة ..
     وزاغت عيناها فى مئات الأطفال متناثرين كالزهور فى حوش المدرسة ولكن باصرتها تركزت فى دائرة زرقاء رسمت بها اسم حلمى على صدره ووجدته أخيرا .. فجرت إليه واستقبلته بين ذراعيها ..
     وكان الغلام مسرورا بلقاء أمه .. وقد انفرجت أسارير نفسه عندما وجدها على الباب .. وعاد يشعر بعطف الأمومة يغمره ويشيع البهجة فى عالمه الصغير ..
                                    ***   
     وكان عثمان خطيب سعاد يشغل وظيفة رئيسية فى إحدى الشركات بالقاهرة ويعمل فى الشركة فى الصباح والمساء .. ومع ذلك .. ومع أن سعاد تسكن بعيدة عنه فقد كان يزورها فى بيتها يوميا منذ أعلنت خطوبتهما .. فقد بهره جمالها وسحره فتعلق بها وأصبح لايغيب عنها .. وكان يقضى معظم الوقت معها فى البيت لأنها كانت ترفض دعواته إلى السينما أو إلى أى نزهة فى الخارج .. فلا تزال تلبس السواد ولم ينصرم عام على وفاة زوجها .. كما أنها لاتحب أن تخرج وتترك الغلام وحده فى البيت .. وكان عثمان يستاء لرفضها الخروج معه .. ولكنه كان يلتمس لها العذر .. ويضطر إلى ملازمتها فى البيت والسهر معها .. وكان يراها أمامه جميلة رقيقة المشاعر عذبة الحديث .. تجمع كل مفاتن الأنثى .. ولكنه كان يستاء فى أعماقه لأن ظهوره فى جو حياتها لم يدخل السرور على قلبها .. ولم يعد إليها اشراق وجهها .. وكان يراها مشغولة باطعامه .. وراحته والذهاب به إلى الفراش .. وإذا ارتفعت حرارته نصف درجة .. شغلت بتمريضه والعناية به وتستدعى له أكثر من طبيب .. ولكن عثمان كان يحتمل هذا بصبر ويعرف أن الحياة ستغيرها بالتدريج .. وأنها ستصبح له وحده بعد أن يتملكها ..
                            ***   
     وكان يجلس معها بعد العشاء فى الشرفة ويتمتعان بجو الخريف المنعش وبالهدوء فى هذه المنطقة وبالمنازل الجميلة الحديثة التى حول البيت .. وبالاضاءة الخافتة فى الشارع .. فإذا طلع عليهما القمر وغمرهما بضوئه وسحره تفتحت مشاعره للغزل .. فيناغيها .. ويناجيها ويمسك راحتها البضة بيده الملتهبة .. ويضغط عليها ويمسح على ذراعيها .. فإذا راح فى سكرة الحب .. واقترب منها ليمسح على شفتيها بشفتيه ويبرد النار التى تشتعل فى قلبه .. دفعته عنها برفق وهى تهمس :
     ـ حلمى صاحى ..
     وكان يتألم لهذا الرفض ويتعذب .. وصرخ  من أعماقه وهى تمضى عنه إلى فراش الغلام ..
     ـ جته موته ..
     ولكنها لم تسمعه ..
                                  ***    
     وكان عثمان يمضى يوم راحته الاسبوعية فى بيت سعاد ويجىء مبكرا ويحاول ملاعبة الغلام ومداعبته .. ولكن عطفه لم يكن طبيعيا .. كان متكلفا .. كان مجاملة للأم .. ولكن سعاد لم تكن قد خبرت بعد طباع خطيبها أو وصلت إلى أعماقه ..
     واقترب يوم الزفاف .. تحدد يوم الخميس الأول من الشهر التالى وكان الخطيبان فى فرحة وسعادة متصلة .. وكان عثمان بك يتعشى مع سعاد كل ليلة ويبقى فى بيتها إلى منتصف الليل ..
     وذات ليلة تعشى حلمى ونام مبكرا .. وعندما جاء عثمان لم يره كما اعتاد ، وكانت سعاد فى هذه الليلة سعيدة .. وازينت وبدت فى ثوب من الساتان الوردى ، خلعت السواد وبدت كأجمل عروس رأتها العين ..
     وكانا يتحدثان فى وفاق ومحبة .. وقررا الانتقال فى أول الشهر إلى شقة جديدة على كورنيش النيل لتكون العش الهنى ..
     وبدا كل شىء ممتعا وسارا فى تلك الساعة .. وعندما ضمها إلى صدره ليقبلها لم تمانع أو تعتذر بوجود حلمى .. ولفرط السعادة التى غمرته وهو يعانقها نسى أن حلمى موجود فى البيت أصلا ..
     ثم خطر فى ذهنه خاطر ..
     لماذا لايدخل حلمى أية مدرسة داخلية ..
     قرر أن يعرض عليها هذا الخاطر بعد الزواج ..
                                      ***    
     وجاء عثمان إلى بيت سعاد ذات صباح مبكرا يصحبها إلى السوق لشراء بعض الأشياء اللازمة لهما فى البيت الجديد .. وكان حلمى قد ذهب إلى المدرسة .. وفيما هما جالسان فى الصالة أحسا بهزة عنيفة فذعرا وارتجفا .. وعرفا أنه زلزال ..
     وبعد أن مرت الهزة العصبية .. جرت الأم إلى التليفون تتحدث مع المدرسة فوجدت الخط مشغولا .. فظلت تتحرك فى البيت دون وعى وهى شاردة وقد ساورها القلق القاتل .
     وبعد قليل سمعت من الجيران أن الزلزال أحدث ذعرا فى بعض المدارس ومات بسبب هذا أطفال .. فابيضت عيناها من الفزع وخرجت بملابس البيت تعدو إلى المدرسة ..
     وكان من يراها وهى تجرى فى الشارع يتصور أنها جنت ، فقد كانت تجرى على شريط الترام ولا تحس بالسيارات المسرعة التى تكاد تدهسها .. ومع أنها مذ نزلت من البيت كانت تود أن تركب " تاكسى " .. ولكنها لم تركب ووجدت طاقتها العصبية تدفعها إلى الحركة والعدو .. وهى لاتحس بشىء مما حولها ، وبعد عشر دقائق رجعت إلى نفسها وركبت " تاكسى " إلى المدرسة ..
     وبقى عثمان فى البيت لم يخرج وراء سعاد .. وكان يود أن يسأل الناس ليتحقق من أن الزلزال وقع فعلا فى المدرسة التى فيها حلمى بالذات .. وأن البناء انقض على الغلام وحده .. كان يود أن يتأكد من هذا وجعله هذا الخاطر سعيدا ومبتهجا وظهر البشر على وجهه ..
                                   ***    
     ودخلت عليه هدى لما علمت بذهاب سعاد إلى المدرسة .. وقالت له :
     ـ كان لازم تروح معاها .. يا عثمان بك ..
     ـ علشان إيه .. ؟
     ـ وجودك يريح أعصابها ..
     ـ دى طارت من غير ماتتكلم ..
     ـ طبعا .. أم ..
     ـ اضربى للمدرسة علشان نطمئن .. دى غابت .. باين مات ..
     ـ حرام عليك .. تقول كده .. وتجيب سيرة الموت على لسانك دول أطفال ..
     ـ بصراحة .. مش حا أستريح أنا وسعاد ما دام الواد دا عايش ..
     ـ ليه .. تقول كده ..
     وكان وجهه يفيض بشرا للأمنية التى يتمناها فى تلك اللحظة .. ويرجو أن تكون قد تحققت ..
     ـ تفتكر ولا قدر الله إن جرى حاجة .. حتتجوزك سعاد ..
     ـ طبعا .. وتكون كلها لى ..
     ـ لأ .. انت غلطان .. ودا تفكير حيوان مش انسان .. سعاد حتتجوزك علشان تربى الواد .. وتكون أب له .. قبل ما تكون جوز لها .. انت ما تعرفشى سعاد .. تتمنى الموت لابنها فى الساعة المشئومة دى .. حرام ..لازم تنزل حالا وراها .. وتخليها تحس بأنك راجل نبيل .. وانسان ..
     وكانت سعاد قد دخلت البيت وبيدها حلمى .. وسمعت الحديث كله .. سمعت كل ما قاله عثمان .. ولكن عندما دخلت عليهما الغرفة لم تظهر ذلك .. كانت فرحتها بعودة ابنها تطغى على كل عواطفها ولم يستطع عثمان أن يخفى انقباضه لنجاة الغلام فاسود وجهه .. ثم فتح فمه دون أن ينطق بحرف .
     ودخل حلمى الغرفة واحتضنته هدى .. وقبلته .. وأخذت المرأتان تتحدثان وتقصان ما وقع لهما ..
                                 ***      
     وكان عثمان جالسا فى صمت ووجهه أبيض .. وكانت سعاد تنظر اليه وهو جالس باحتقار شديد ومقت أشد وتود لو تطرده من بيتها ..
     وأخذت هدى تضحك وتحاول أن تعيد البهجة إلى الخطيبين .. بكل ما تستطيع المرأة من حيل .. ولكن بعد أن خرجت هدى من البيت عاد الوجوم والصمت .. وتكشفت نفساهما .. وأصبح كل منهما يرى وجه صاحبه خالصا من كل قناع وزيف ..
                                ***   
     وتحدث عثمان وردت عليه سعاد فى فتور .. ولما نهض ليخرج لم تستبقيه كعادتها للغداء .. بل فتحت له الباب على مصراعيه ..
     وعلى بسطة السلم ألقت وراءه بشىء صغير .. سمع رنينه وانحنى والتقطه .. وعندما أدار رأسه إليها .. كانت فى تلك اللحظة قد أغلقت الباب فى وجهه بعنف ..
====================================      
نشرت القصة بمجلة الجيل فى 19|12|1955 وأعيد نشرهافى كتاب " الأعرج فى الميناء  " سنة 1958
====================================   










الثعـبـــان


      مررت على الشيخ عبد العليم بكر وهو جالس تحت شجرة من شجر النبق قريبا من السكة الزراعية وحوله بعض الفلاحين ..  وكان يحاسبهم على مياه " الوابور " فدعانى إلى مجلسه لأشرب القهوة ولأشترك معه فى الحساب .
     ولما كنت عطشان وتعبا من المشوار الذى قطعته بالركوبة فقد ملت إلى الظل لأن الحرارة فى ذلك اليوم كانت شديدة والهواء اللافح يشوى الوجوه .. وكانت معى جريدة الصباح اشتريتها من محطة بنى حسين فأخذ الشيخ عبد العليم يقرأ الأخبار ويسألتى عن سبب فتح بورصة القطن .. وعن تعميم مياه الشرب فى القرى وعن الجمعيات التعاونية لمعاونة الفلاح .. وعن المجمع الذى دقوا له الحديد فى شرق البلد ..
     وكان الفلاحون يستمعون إلينا ولا يعلقون بشىء على ما نقول .. لأننا فى نظرهم متنورون وهم لايرتفعون إلى مستوانا فى الادراك والفهم .
     وتوقف الشيخ عبد العليم عن الحديث ورأيته يرقب شخصا يتخطى مجراة الوابور .. وخلفه خفير الزراعة عبد البصير وعرفت الرجل عندما اقترب فقد كان مأمون عبد الرحمن وكان من خيار الفلاحين فى عزبة الشيخ عبد العليم ومن زراع أرضه .
     وابتدره الشيخ عبد العليم بقوله :
     ـ أين الفلوس يا مأمون .. ؟
     ـ اتفضل ..
     ـ والجنيه .. ؟
     ـ أنا زارع فـدان وتلت بس على وابورك يا عبد العليم بيه ..
     ـ انت زارع فدان ونص .. والدلال قاس زراعتك .. وكمان اسماعيل أفندى .. كل ميه لازم المناكفة دى .. روح هات الجنيه .
     ـ معنديش غير دول يا عبد العليم بيه ..
     ـ خذ فلوسك ولما تكملهم هاتهم مع بعض .
     ـ أجيب منين ..؟ أبيع أولادى ..؟
     ـ روح بعلك كيلتين قمح .. ولا نعجة .. ولا عنزتين .. من دا اللى داير ياكل درة الناس ..
     ـ أنا معنديش غير دول دا حقك وزيادة ..
     ـ بتقول إيه ..؟
     ـ حقك .. يا بيه ..
     ـ من الصبح حنحجز على زراعتك وجاموستك ..
     ـ انتو حتشترونا وتبعونا بأرضكم ووابوركم .. إيه الذل دا ..
     ـ بتقول إيه يا كلب ..
     ونهض الشيخ عبد العليم وتناول الرجل بعصاه .. ضربه على وجهه وصدره .. ضربا مبرحا .. وابعدناه عنه .. وعاد الشيخ عبد العليم إلى مجلسه وهو لايزال يزمجر من فرط الغضب .. ويهدد المسكين بطرده من العزبة ..
                                ***   
     وأخذنا نهدىء من فورة الشيخ عبد العليم ونخفف من غضبه بكل الوسائل .. وكانت الشمس قد تجاوزت السمت واشتدت حرارة يوليو .. وبدت كأن السنة النار تخرج من الأرض ..
     وكانت الأرض منبسطة أمامنا وجذور القمح لاتزال بادية فى الأرض البور أما الحقول التى زرعت أذرة فقد كانت مخضرة ولا تزال عيدانها الصغيرة تقاوم الحرارة الشديدة والجفاف ..
     وكان النيل قريبا .. ولكنه منخفض جدا والأرض عالية فلم يكن الفلاحون يستفيدون من مياهه فى الزراعة ولكنهم كانوا يشربون منه ويرسلون مواشيهم لتشرب وتستحم فيه .. ولهذا عملوا طريقا صغيرا " مدقا " ينحدر إلى النيل تنزل منه النساء لملء البلاليص .. والمواشى لتستحم ..
     وكان حسن ابن الشيخ عبد العليم قد هبط مع غلامين من العزبة إلى النيل من هذا المنحدر وأخذوا يلعبون فى الطين ويبنون منازل على الرمال ..
     ولم يكن الشيخ عبد العليم يمنع ابنه من هذه اللعبة لأنها اللعبة الوحيدة التى يلعبها وهو يرافق والده إلى العزبة ..
     وكان الشيخ عبد العليم قد فرغ من محاسبة الفلاحين وانصرفوا لحالهم .. ونهض ليصلى الظهر ..
     وفجأة سمعنا غلاما يصيح :
     ـ الحقوا حسن .. ابن عبد العليم بيه ..
     وتصورناه غرق .. فجريت مع والده إلى الشاطىء وخلفنا كل من سمع الخبر من الفلاحين .
     وعندما وصلنا إلى رأس المنحدر ونظرنا إلى أسفل .. تسمرت أقدامنا واتسعت أحداقنا من الرعب وخشنا إن قمنا بأى حركة أن تقع الفاجعة فقد كان هناك شىء أرقش ضخم .. قد التف حول نفسه واقترب من الماء ليبترد .. وكان حسن قد التصق بالجدار عند الشق الذى خرج منه الثعبان ومن الذعر الذى أصابه من الصياح ومن الحركة ..
     ولم نكن ندرى عندما وقع نظرنا عليه أميت هو أم حى .. فقد كان متخشبا لايطرف .. وكان الثعبان يقطع عليه الطريق فهو لايستطيع النزول إلى الماء أو الصعود إلى الأرض .. ولم يكن فى الماء شىء .. سوى جاموسة ضخمة .. وكانت جاموسة مأمون .. ولم تكن تعير بالها لشىء مما حولها .. كانت باركة فى الماء وعلى خط مستقيم مع الثعبان .. وخشينا أن تتحرك فتدفع الثعبان إلى الحركة .. فتقع المصيبة وأخذنا بالمنظر وصعقنا فقد كان الثعبان أرقش ضخما ولم نر لطوله وضخامته مثيلا .. كان كأنما خرج من الجحيم ..
     ولم نكن ندرى كيف نتحايل عليه ونقتله لأن أى حركة تنبهه سيكون معناها .. موت الغلام ..  وشعرت كأن سيالا كهربائيا يسرى فى جسمى كله فارتعشت .. وخيل إلىّ .. أن هناك أكثر من ثعبان .. يزحف على الأرض التى تحتى .. ويخرج من الشقوق .. فكنت أرفع رجلى وأخفضها وأنفض قدمى .. وأنا واقف وأتلفت حولى فى ذعر .. وتصورت أحد هذه الثعابين قد التف حول عنقى ..
      وفى غمرة هذه التصورات المفزعة ألقى أحد الفلاحين حجرا ضخما على الثعبان .. وكان من المحتمل جدا أن يمضى كل شىء فى سكون لولا هذه الحركة الطائشة .. إذ أن الثعبان كان سيعود إلى جحرة دون أن يؤذى أحدا ولكن بعد الحجر الذى ألقى عليه وأخطأه .. تحرك ورفع صدره ورأسه لينتقم .. واتجه إلى الغلام ..
      وصاح الجميع واضطربوا وصاح الشيخ عبد العليم وهو يمد مسدسه بيد مرتعشة ولا تنطلق منه النار :
     ـ اضرب .. يا حسان اضرب ..
     ـ الرصاصة حتصيب ابنك والجاموسة .. ولا أحد يمكن أن يصيب رأس الثعبان وهو يتحرك هكذا ..
     ـ اضرب يا واد اضرب ..
     وغشيتنا الغاشية .. ولم نعد نرى وأصبح الغلام بين فكى الثعبان كما صور لنا الذعر والاضطراب .. وفى تلك اللحظة الحاسمة دوت رصاصة خلفنا .. رصاصة واحدة .. وسقط الثعبان والجاموسة معا وتلفتنا إلى مصدر النار .. فرأينا مأمــون .. واقفـا على الجرف وحده .. وبيده بندقيته القصيرة ..
     وكنا جميعا نعرف أنه لا أحد غيره يمكن أن يطلق مثل هذه الرصاصة .. ويصوب مثل هذا التصويب .. لا أحد غيره على الاطلاق ..
     وعندما ضم الشيخ عبد العليم ابنه إلى صدره وأخرج ثمن الجاموسة لمأمون .. رمى مأمون الأوراق المالية على الأرض باحتقار .. وانطلق فى الطريق وحـده حانيا رأسـه كأنه ما فعل شيئا ..
     ولم أر الشيخ عبد العليم محتقرا ذليلا كما رأيته فى تلك الساعـة .
================================= 
نشرت القصة فى صحيفة الأهرام المصرية 16|1|1956 واعيد نشرها فى مجموعة الأعرج فى الميناء 1958وفى كتاب قصص من الصعيد من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
=================================  






















الخيط

هبط حسين من القطار وخرج مع الركاب من النفق إلى الرصيف .. وسره أن المحطة مزدحمة وأن القطار وصل فى الليل .. فشعر ببعض الاطمئنان واستطاع أن يسير فى الميدان دون أن يتلفت ودون أن يرقب كل عسكرى فى الشارع حتى ولو كان من عساكر المرور ..
ولكن عندما خرج من الميدان وسار فى شارع عماد الدين عاوده الخوف وتصور أن كل مار فى الطريق يشير إليه وأن المخبرين ركبوا معه القطار من الصعيد وهم يتبعونه عن بعد ويترسمون خطواته .. وقد تركوه ليشعروه فترة قصيرة بالأمان .. ولكن الحبل فى أيديهم وفى اللحظة الحاسمة سيقبضون عليه ويعيدونه وفى يديه الحديد إلى ديروط ..
وكان منذ خرج من المحطة يود أن يركب سيارة .. ولكنه لم يكن قد قرر أين سيقضى الليل .. ورأى أن يسير .. وأن فى حركة جسمه فى الشارع تنفيسا عن مخاوفه .. فقد كان جالسا فى القطار دون حركة كالمشلول .. فوقع تحت تأثير القلق المدمر .. قضى ست ساعات كاملة فى عذاب لا يدركه عقل .. أما الآن فقد رأى أن يتحرك ويسير فى الليل حتى يختار المكان الذى سينام فيه ..
*** 
وعلى ناصية شارع نجيب الريحانى رأى رجلا ضخما يرتدى الملابس البلدية وبيده عصا صغيرة يعبر الشارع ويتقدم نحوه .. فأيقن أنه مخبر من البوليس .. وشعر بخوف قاتل وحقد شديد .. وكان يخشى أن يقبضوا عليه فى الشارع ويجعلوه محط أنظار الناس وسخريتهم وفضولهم ساعة كاملة من الزمان .. كان يود أن يقبضوا عليه وهو نائم فى الفندق .. يوقظونه ويأخذونه .. وليذهبوا به بعد ذلك إلى المشنقة ..
وعندما أصبح هذا الرجل الغريب على قيد ذراع منه كور حسين يده ليلكمه .. ليضربه ضربة قاتلة ..
وعجب لأنه استساغ القتل .. وعجب أكثر للحقد الذى برز فى صدره فجأة على كل المخلوقات البشرية .. وعلى هذا الرجل بالذات وود لو أن معه المسدس الذى ألقاه هناك فى السوق .. ليفرغه فى صدره .. وعندما سأله الرجل عن الساعة كان حلقه قد جف من الغضب والانفعال فحرك شفتيه دون أن يخرج منهما أى صوت ..
***
وفى ميدان مصطفى كامل كان قد استبعد عن ذهنه فكرة المبيت فى الفنادق اطلاقا .. لأن أسماء النزلاء تعرض على البوليس .. كما استبعد المبيت عند بعض أقربائه المقيمين فى حى السيدة .. لأن رجال البوليس فى المركز سيعرفونهم .. وكانت رجلاه فى الواقع تحملانه إلى جهة يشعر عندها بالأمان ولأجل هذا ركب القطار وهرب .. فبعد أن عبر الميدان وسار فى شارع قصر النيل أدرك لماذا يسير فى هذا الحى .. أنه كان يسكن وهو طالب فى الجامعة عند سيدة أجنبية تقيم فى شارع قريب .. فذهب إليها ليقضى عندها الليل .. وكان خير مكان يختفى فيه عن الأنظار ..
*** 
وقرع باب مدام رجينا .. وقادته إلى الداخل وهى مسرورة بعودته فقد كانت تحبه وعاش معها خمس سنوات فى سعادة تامة .. وقالت بعد أن استراح قليلا فى البهو :
ـ سأعد لك غرفتك .. ومنذ سافرت رأيت ألا أسكن أحدا .. فليس من السهل العثور على رجل نبيل أو سيدة محترمة .. وأنا الآن مستريحة وحدى ..
ـ لا داعى لأن تتعبى نفسك .. سأنام فى أى مكان حتى على هذه الأريكة ..
ـ إنك بادى التعب ويجب أن تستريح .. راحة تامة ..
*** 
وأعدت له الغرفة وكانت تروح وتجىء أمامه جميلة مشتهاه كما كانت .. ولكنه لم ينظر إليها هذه المرة كأنثى .. لأن صلته بالعالم والناس قد انقطعت .. وماتت رغباته منذ تلك الساعة المشئومة .. ولم يعد يصلح لأى شىء .. أنه حطام يتحرك بقوة الدفع وبعد قليل سينهار كلية ويتوقف عن الحركة ..
*** 
ورأى بيتها كما تركه هادئا جميلا .. ورآها تضع الكتب على الرفوف فى ردهة البيت وفى غرفة النوم .. حتى فى الحمام .. ففى كل مكان كانت تقرأ .. وكان يهديها الكتب وتهديه .. ولكن الكتب والعلم وكل حضارة البشرية لم تمنعه من القتل ..
ورأته جالسا على الكرسى وقد خلع سترته .. وظهر قميصه ملوثا بالغبار والعرق ..
ـ أليس معك بيجامة ..؟
ـ لا .. جئت لليلة واحدة وسأنام كما أنا ..
ـ كيف تخرج فى الصباح بهذا القميص أخلعه لأغسله وأكويه لك ..
ـ لا داعى لتعبك والأمر يستوى عندى .. فهذه ليلتى الأخيرة ..
ـ هل قررت الانتحار ..؟
وضحكت .. وأضافت :
ـ لماذا لم تسأل عنى طوال هذه المدة .. هل استطبت الحياة فى الريف إلى هذا الحد ..؟
ـ ليتنى ما ذهبت ..
ـ لماذا تبدو حزينا ..؟ هل خسرت فى القطن ..؟
وهمس :
ـ خسرت الحياة ..
ولم تسمعه ..
وأخذت منه القميص وذهبت لتغسله .. وكان قد تمدد على الكرسى محاولا أن يرخى أعصابه المشدودة .. ورأى أن يغتسل ليزيل غبار السفر .. فدخل الحمام ..
وفعل الماء البارد فعله فى جسمه ونفسه .. فانتعش .. وعاوده الأمل فى الحياة ..
***
وحدث نفسه بأن أحدا لا يستطيع أن يثبت عليه أى شىء .. فقد كان السوق مزدحما .. وكان هناك كثيرون من عائلته وعائلة الرجل الآخر .. وما من إنسان رآه وهو يطلق النار .. ما من إنسان .. وأخذت تدور فى رأسه هذه السوانح والأحلام ..
***
ورأته رجينا بعد أن غسلت القميص ونشرته لا يزال متمددا على الكرسى وقد ألقى رأسه إلى الوراء وأغلق عينيه .. فحسبته قد نام وتركته يأخذ راحته وذهبت إلى غرفتها لتنام .. وأطفأت النور فى البيت وسمعت بعد قليل جرس الباب الخارجى يدق بعنف .. فقامت وهى تعجب للطارق فى مثل هذه الساعة .. فلا أحد يطرق بابها فى الليل .. وفتحت الباب .. ووجدت ضابطا من البوليس على العتبة .. وابتدرها بقوله :
ـ دا بنسيون مدام روز ..؟
ـ البنسيون فوق .. فى الدور الرابع ..
واعتذر الضابط وطلع السلم .. وأغلقت السيدة الباب وعندما استدارت رأت حسين يقف على باب غرفته .. وفى عينيه نظرة غريبة مرعبة .. وكان وجهه جامدا متصلبا ..
وعندما ترك مصراع الباب دار وسقط .. فتلقته رجينا على صدرها ولم توجه إليه أى سؤال وكان يرتعش من الخوف .. ويتصبب جسمه عرقا .. ولما هدأ قليلا فتح فمه ليتكلم .. فوضعت أناملها على شفتيه ..
ـ لا داعى لأن تتكلم .. أنا أعرف كل شىء .. منذ دخلت ..
ـ تعرفين أننى قـ ..
وبحث فى ذهنه عن كلمة قاتل بالفرنسية فلم يوفق ..
ـ أعرف أنك مطارد من البوليس .. لأنك تشتغل بالسياسة ..
ـ لا .. ليس الأمر كما تتصورين ..
ـ ماذا .. هل سرقت خزانة عمك .. أنه بخيل ويستحق السرقة .. وكان يرسل لك المصاريف بمقدار ..
ورأت أن ترفه وتخفف عنه لأن حالته كانت محزنة ..
ـ الأمر أفظع من هذا ..
ـ ماذا ..؟
وفتحت فمها مرتاعة ..
وقال بصوت خافت :
ـ وقع لى حادث فى سوق القرية أمس .. رأيت رجلا .. يتعارك مع أخى ويخنقه ..
ـ ضربته بعصا ..؟
ـ لم تكن معى عصا .. عندما رأيت لسان أخى المتدلى .. لم أشعر بنفسى وأنا أطلق النار على الرجل ..
ـ وأصبته ..؟
ـ لم أشعر بنفسى ولا أدرى كيف حدث هذا .. كل إنسان يمكن أن يكون قاتلا إذا مرت عليه لحظة رهيبة من الحياة .. كل إنسان ..
وأخذ يبكى وينتفض ..
وأشعلت سيجارة وهمست :
قتلته ..؟
وكان صوتها ضعيفا .. يرتعش ..
ـ أجل ..
ـ وأنت الآن قاتل .. كأى إنسان يقتل ليسرق .. ويقتل لمجرد القتل ..
وابتعدت عنه ونظرت إليه مرتاعة ..
ـ تخافين منى ..؟
ـ بالطبع .. ولولا تعاستك .. لولا أنك أشقى إنسان على ظهر الأرض لصرخت وملأت الدنيا صراخا ..
ـ كل إنسان يمكن أن يكون قاتلا .. إذا مرت عليه لحظة رهيبة من الحياة ..
ـ لا .. لا تقل هذا .. إنك شقى معذب .. وهل حسبت بعد أن ركبت القطار وهربت أن الأمر انتهى .. لا .. إن العذاب يأتيك من داخل نفسك .. لقد أنهيت حياة إنسان على صورة بشعة .. وكيف تعيش بعد الجريمة وأنت رجل متعلم مهذب .. واجه المصير بشجاعة ..
ـ سأعود غدا ..
ـ أجل .. عد فى أول قطار وسلم نفسك .. هناك ..
ـ وهذه ليلتى الأخيرة ..
ـ وأنا مسافرة غدا مثلك .. راحلة إلى الخارج ..
ـ كم أشكرك .. إن قدمى ساقتنى إليك وأنا لا أدرى .. لم أكن أدرى أولا لماذا أسير فى حى قصر النيل .. وهذا من أسرار الحياة .. إن عقلى فكر فيك وأنا لا أدرى منذ ركبت القطار .. أنت الانسانة الوحيدة التى تقدر شقائى وأضع رأسى على صدرها ..
ـ والآن حاول أن تنام فقد تعذبت كثيرا ..
وقال وقد شعر بالأمل فى الحياة :
ـ ربما يكون الرجل قد جرح فقط ولم يمت .. فقد هربت دون أن أعرف ما حدث ..
ـ ربما .. هذا أمل جديد .. ونور فى الظلام ..
ـ لقد رأيت وأنا مغمض عينى فى تلك اللحظة الرهيبة الخيط ..
ـ أى خيط ..؟
ـ الخيط الذى يحركنا .. الخيط الذى لا يرى ..
ـ رأيته ..؟
وضحكت ..
ـ أجل .. بعينى هاتين ..
ـ إنه سر الحياة .. فكيف تراه .. وكيف يراه إنسان ..
ـ أى شىء رأيت إذن ..؟
ـ لا أعرف .. ولم تمر علىَّ هذه اللحظة فى حياتى .. ولا أحب أن تمر ..
وكانت تبتسم بسمة خفيفة ..
ـ إن الرجل حى .. لم يقتل ..
ـ ربما .. مادام هذا هو احساسك ..
ـ إنه راقد فى المستشفى .. وعليه ضمادات .. وهو يتحرك الآن وقد غفر لى طيشى وجرمى .. لأنه نبيل ..
وأعطته قرصا منوما ..
***
وفى الصباح عاد حسين فى أول قطار .. ورآه الناس يخرج من المحطة ويتجه مباشرة إلى المركز ..
======================= 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 204 بتاريخ 21/11/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الأعرج فى الميناء " سنة 1958
========================
 











الشــــعـلة


     تقع حانة منيرفا فى الشارع الرئيسى فى حى الملاهى والحانات .. ولكنها لم تكن من طرازها .. كانت مستطيلة وهادئة ، ولها ساحة رحبة ، وشرفة تطل على الطريق ..
    وكان أكثر المترددين عليها من الأشخاص الذين يتناولون وجبات الطعام فى الخارج .. فقد كانت مشهورة بالكفتة الرومانى والمكرونة الإيطالى ، وأصناف المشويات الشهية .. وكان صاحبها يديرها برأس الفنان وعقله ..
     وكنت أذهب إليها كل مساء لأتعشى وأشرب القهوة الجيدة وأكتب تحت ضوء مصباحها وأقرأ .. وأشاهد الحياة تجرى أمامى من شرفتها الواسعة ..
    وكنت مذ قدمت من الريف أحس بالفراغ وأشعر بالنقص .. لأنى أصبحت بصورة لاتقبل الشك أعيش على هامش الحياة .. وأكتفى بالعمل الروتينى الممل فى الصباح .. دون أن أحرك مشاعرى أو أن أتقدم خطوة ..
     وبعد الحياة الأصيلة وسط الفلاحين فى عزبهم وكفورهم .. وبعد مشاركتهم فى الطعام والشراب .. والعمل الشاق فى الأرض .. وبعد مخالطة الأخيار والأشرار منهم والغوص فى الأعماق .. جئت إلى هنا لأنظر إلى الحياة فى المدينة من وراء زجاج ..
     أصبحت لا أرضى عن هذه الحياة ..
     وكنت بحكم طباعى الريفية المتأصلة أنفر من أهل المدن ولا أستطيب صحبتهم .. ثم أخذت أحاول أن أرفع هذا الحاجز .. بالتدريج ..
    وكما يحدث لكل إنسان يتردد على مكان معين .. فإنى قد وجدت نفسى بعد أسبوع أعرف كل الوجوه التى تتردد على المشرب .
     كنت أجد على " البار " رجلا ضخما عظيم الكرش .. كان السيد " عبد الغفار " يدخل فى الساعة العاشرة تماما .. ويجلس إلى الرخامة العالية .. وأمامه كؤوس الشراب .. ولم يكن يأكل أبدا .. كان يشرب فقط .. ويشرب بشراهة .. يشرب إلى درجة تفوق كل مدارك الاحصاء .. خيل إلىّ أنه يشرب فى الليلة الواحدة .. " دنا " ممتلىء الحافة .. ولم يكن معه رفاق .. كان يأتى ليسكر وحده ..
     وقبل منتصف الليل بقليل كان يحصى الموجودين بعينيه ويطلب لهم الشراب .. ولما يجدنى لا أشرب يقول للساقى :
     ـ حسن لماذا نسيت السيد ..؟
     وتلفت إليه أقول شاكرا :
     ـ أرجو اعفائى .. اننى لا أشرب ..
     ويحدق فى وجهى بقوة :
     ـ ولماذا تجلس هنا .. اذن ..؟
     ـ لأن المكان جميل .. ويريح أعصابى ..
     ـ انك كالذى يصلى طول النهار .. ويذهب فى الليل إلى وجه البركة .. !
     وأعجبت النكتة بعض الحاضرين فضحكوا وضحكت معهم ..
     وقال باصرار :
     ـ لابد أن تشرب شيئا .. ولو زجاجة صودا ..
     وتحت الحاحه الشديد طلبت من حسن " شوبا " من البيرة .. وأبقيته أمامى ممتلئا إلى النصف .. حتى يعفينى من غيره ..
     وبعد نصف الليل يطلب عبد الغفار من حسن أن يحضر له عربة يركبها وهو لايكاد يتماسك .. ويضع فى يد حسن كل ما بقى معه من فكة ..
     وبعد ربع ساعة من خروجه أحمل كتبى .. ويأخذ حسن فى اغلاق الأبواب .. وكنت أتخذ طريقى إلى بيتى فى الحلمية الجديدة ماشيا على الأقدام .. وكانت تلك الجولة الليلية تطيب لى لأنها رياضة عضلية للجسم المحبوس بين أربعة جدران .. ولأنى كنت أستطيع أن أتبين جمال القاهرة بعد أن تنقطع الرجل .. تبدو العمارات والشوارع تحت الأضواء الساكنة أمتع ما تقع عليه العين .
     وحدث وأنا أمضى متمهلا وكنت قد تخطيت ميدان الأزهار .. وانحرفت فى شارع الفلكى .. أن رأيت رجلا يمشى أمامى فى تثاقل .. وكان شكله مألوفا لدى .. ولما اقتربت منه وجدته " عبد الغفار " .
     وكان قد استفاق من نصف سكره .. وقال لى أنه يسكن فى عمارة للأوقاف فى هذه المنطقة وأنه خلفها وراءه .. لأنه لم يشعر بالنوم .. بعد أن نزل من العربة .. طارت الخمر من رأسه .. فرأى أن يتجول لأنه يكره البيوت .. وشعرت بثقل الوحدة على نفسه المسكينة ..
     وقال لى أنه مقطوع من شجرة ، وأنه بعد سنوات من الكفاح فى سبيل العيش وجد نفسه يعيش بغير أمل أو غاية مرجوة .. وقد جره اليأس إلى السكر .. وهو الآن يشرب ليموت .. لأنه لم يعد يستعذب الحياة .
     ولم أشأ أن أسأله لماذا لم يتزوج ولماذا يعيش فى جفاف عيشة مظلمة .
     لأن حياتى كانت جافة ومظلمة مثله ، ولأنى كنت لا أحب أن أسمع المواعظ ولا أحب أن ألقيها على الناس .. وتركت الرجل قبل أن أبلغ محطة حلوان .
***
     وفى خلال هذا الركود والملل والفراغ الذى كنا نحس به ونعيش فيه .. اشتعلت نيران الحرب فجأة .. وتطورت الأحوال بسرعة عجيبة وأخذ " روميل " يزحف فى الصحراء متجها إلى الإسكندرية .. وامتلأت مدينة القاهرة بجيوش الإنجليز وحلفـائهم وأخذوا يعربدون ويسكرون فى حاناتها ..
     ولكن الخواجه " إيناس " منعهم من دخول " منيرفا " .. كان يود أن يحتفظ بعملائه القلائل .. وبهدوء ونظافة المحل .
     وجعلنى هذا أكثر حبا للمكان فلم أنقطع عنه أبدا ..
    وفى الوقت الذى كان فيه جنود الحلفاء السكارى .. يحطمون الحانات والملاهى .. ويشتبكون فى عراك دموى مع السكان الآمنين فى قلب العاصمة .. كنا نحن الجالسين فى " منيرفا " نشعر بالهدوء المطلق .. وكانت كل القرائن تدل على أن هذه المجزرة البشرية ستنتهى بسحق الإنجليز واندحارهم .. كانوا يولون الدبر .. فى كل ميدان .
     ولهذا تحمل الناس الظلام والغارات .. والجوع .. لأن الفرحة الكبرى لتحرير الوطن والتخلص من شرهم .. أتية لا ريب فيها ..
***
          ولم تكن حانة " منيرفا " بالمكان الذى يجلس فيه النساء . ولكن يحدث فى بعض الحالات أن تأتى سيدة مع رفقة لها .. أو تجلس وحيدة لتتعشى أو تشم النسيم ..
     وكنا نحس بوجودنا .. ونشعر بالحيوية كلما دخلت فتاة .. وكان صحن الحانة متسعا وعلى الجانب الأيمن منصة .. كأنها خشبة مسرح قديم .. كانت ترتفع عن أرض الحانة بثلاث درجات ..
     وفى هذا المكان المرتفع كنت أجلس .. وأشعر بالراحة ..
***
     وسمعت ضحكات " عبد الغفار " ذات ليلة وهو يتجه إلى الباب ، وكان خارجا قبل ميعاده ..
     وقال لحسن :
     ـ بلاش عربية الليلة عاوز أتمشى .
     ـ وكانت الليلة شديدة الحرارة ، والساعة لاتعدو العاشرة ، فرأيت أن أذهب إلى سينما صيفية فى شارع عماد الدين .
     وخرجت بعد الساعة الواحدة صباحا .. وسرت فى شارع محمد فريد .. وقبل أن أعبر شارع الساحة .. رأيت نفرا من الناس متجمعين على عتبة بيت فى الشارع .. ويتحدثون بصوت عال ، فنظرت فرأيتهم يحيطون برجل جالس على العتبة ، وهو فى حالة اعياء تام ..
     وعرفت الرجل فقد كان " عبد الغفار " ..
     وقبل أن أقترب منه .. سمعت من يقول :
     ـ الأفندى مات ..
     فارتعشت ..
     ـ مات من السكر ..
     ـ وفين العسكرى ..
     ـ جاى ..
     ـ طيب يا ناس غطوه بحاجة ..
     ـ حرام ..
     وقلت للناس انى أعرف الرجل وأعرف بيته .. وبحثنا عن تاكسى . ومر تاكسى نزل منه حسن ، وكان بعض الناس قد أخبره بما حدث ، فجاء على عجل .
     وحمل الرجل وذهب به سريعا ..
     وعلمت فى مساء اليوم التالى أنه تكفل بمصاريف الدفن .. ولما أخرجت له مبلغا من جيبى لأعاونه فى هذه المصاريف ..
     قال لى وهو يبتسم :
     ـ مش ممكن .. أنت فاكر .. أنا دفعت له حاجة من جيبى دى فلوسه ..
     وهكذا بدا مثالا نادرا فى الوفاء ..
     وحزنا على موت الرجل .. فقد كان يشيع البهجة فى المكان ..
***
       وفى الساعة التاسعة من مساء اليوم التالى .. دخلت سيدة شابة الحانة .. وجلست إلى مائدة صغيرة .. وكانت جميلة وحسنها يهز المشاعر .. وشعرت بالأسى لأنها اختارت هذا المكان لتجلس فيه وهو ليس أكثر من " بار " .          وشعرت بالألم لأن شكلها لا يدل على انها تتردد على هذه الأمكنـة العـامة ..
 وطلبت طبقا من المكرونة وأخذت تأكل ..
     وبعد أن أكلت وضعت الشوكة والسكينة فى الصحن .. ونظرت إلىّ قليلا فتـأكـدت من هذه النظرة انها مصرية.
     وكانت جميلة .. وجمالها يصرخ .. فتألمت لأنى رأيت هذا الجمال يخرج فى الليل وحده وسط الحرب والظلام ..
     ولكنى اسـترحت لأن المـكان لايدخـله عساكر من الإنجليز ..
      ولما أعطتنى وجهها .. عدت إلى الكتاب .. وفجـأة برق أمـام نظرى شىء من الذهب .. وسمعت صوتا خشنا يقول بالإنجليزية :
ـ تشترى هذه .. ؟
     ورفعت وجهى عن اليد التى كانت ممسكة بالساعة إلى صاحبها .. فرأيت عملاقا ضخما من عساكر الإنجليز ، ولا أدرى كيف دخل من الباب ، ينحنى علىّ وهو مخمور وحسبنى لم أسمعه فى المرة الأولى فعاد يقول :
     ـ تشترى هذه .. ؟
     ـ نو..
          قلتها سريعا ودون تفكير فى العواقب .. درت برأسى فى المكان فوجدت جسمه الضخم قد سد علىّ جميع المنافذ .. ووجدت جميع من فى الحانة ينظرون إلينا وكأن على رؤوسهم الطير ..
     وكان هو أقرب شىء إلى الممر .. فلم يستطع إنسان أن يتحرك من مكانه .. ونظرت فوجدت بجانبه طبنجة موضوعة فى جراب .. وخنجرا كبيرا مما تراه مع البوليس الحربى ..
     ولمحت وهو يعيد الساعة إلى جيبه .. ثلاثة أشرطة على ساعده .. وشيئا فى حجـم القرش كالشـارة . . وقال وهو ينحنى بكليته على المنضدة :
     ـ اعطنى .. شلنا ..
     ـ ليس معى نقود ..
     قلتها بنفس اللهجة السابقة ونفس التوكيد .. وأحسست بعدها بهزة .. ولم تكن منه فهو لم يتحرك من مكانه .. وإنما كانت منى .. ارتجفت .. خرجت منى الكلمة كالقذيفة .. وندمت عليها .. وأسفت على حمـاقتى .. فقد كنت أستطيع أن أصرفه وأخلص حياتى بقروش قليلة وأخلص من كل المتاعب ..
    ولكن الإنسـان يرث بعض الطباع فى مثل هذه المواقف ويتصرف وهو واقع تحت تاثيرها .. فأنا لم أقبل التحدى .. ولا الاستكانة .. رفضتهما وإن كنت أعرف اننى سأموت حتما ..
    وفكرت وأنا أرفع رأسى فى الشىء الذى سيضربنى به هذا الوحش .. ثم رأيت أنه لن يستعمل شيئا أكثر من أن يرفعنى بين يديه ويلقينى على الأرض .. فأنا لا أتحمل أكثر من هذه الضربة ..
     وقـدرت قوته .. وكان يستطيع بسهولة أن يصرع ثورا .. وأن يطوق بذراعيه جميع الموجودين فى المشرب حتى يكتم انفاسهم .. وتحرك إلى الخلف قليلا .. ثم تقدم وكانت عيناه فى لون الدم ..
     وفى تلك اللحظـة لا أدرى لم نظرت إلى الفتـاة التى كانت تأكل فرأيتها تشعل سيجارة .. وتنظر إلينا فى ابتسام . .
     وفى غفلة من الرجل وهو منشغل بى .. تسلل معظم الذين كانوا فى داخل البار .. وبقيت وحـدى أواجـه العاصفة .. وعندما يدرك الإنسان اليأس ويعرف أنه ميت يتصلب جسمه ويفقد الإحساس بما حوله ..
     وهذا ما حدث لى .. وأنا أراه يضع يده على الخنجر .. وانتظرت الضربة .. فاغلقت عينى .. ولما فتحتهما وجدت وجها أعرفه يقف بين رأسينا ..
     وقالت الفتاة .. وهى تربت على ذراعيه .. وتنظر إليه فى رقة :
     ـ تعال .. يا جونى .. سأعطيك كل شىء ..
     وكأنما صبت عليه ماء باردا .. فتركنى وتحول إليها ..
     ووقفت معه على المنصة تضاحكه .. ثم مشت به إلى حافة الدرج .. ودفعته وهو ينـزل الدرجات بكل قوتها فانزلق وهوى بكل جسمه على البلاط .
     وفى تلك اللحظه رأيت فى يد حسن قطعة من الحديد ، ضرب بها "كوبس " النور .. فغرقنا فى الظلام .
***
          وفى اليوم التالى وجدت حانة منيرفا .. مغلقه .. والدكاكين التى بجوارها محطمة ولم أسمع لمن كان فيها خـبرا ..
      وحزنت على حسن .. وعلى الفتاة فقد كانت الشعلة التى أضاءت ظلمـات حياتى .. وظلت الجذوة المشتعلة فى قلبى .. لم تنطفىء نارها ابدا .. وكنت أراها بوجهها الجميل وهى جالسة هنـاك فى وداعة .. ومن عينيها يطل الحنان والابتسام ..
***
          ومرت سنوات .. والجذوة لم تتحول إلى رماد ..
     وذات ليلة كنت أزور صديقا لى فى شبرا .. لأول مرة .. ولم أعرف موقع الشارع فوقفت حائرا قبل الدوران .. ثم رأيت نورا فى دكان سجاير صغير فتقدمت إليه .. ولما اقتربت من الدكان .. رأيت رجلا داخله .. وخيل إلىّ أنى أعرفه .. ولما دققت فيه النظر .. صدقت فراسـتى وتأكـدت أنه حسن "سـاقى" منـيرفا وسألته عن شـارع الشبراوى ..
     فنظر إلىّ ولم يعرفنى .. ثم خرج من الدكان إلى الرصيف فرأيته يمشى على عكاز .
     ونقر على نافذة أرضية .. ثم سأل :
     ـ امينة .. فيه شارع هنا اسمه الشبراوى .. ؟
     وفتحت النافذة وأطل وجه ..
     ـ ايوه .. تانى شارع بعد دكان عبداللطيف .. على طول .
     ومدت صاحبة الصوت رأسها .. فرأتنى .
     وعرفت أمينة فى الحال .. فإن شيئا لم يتغـير من وجهها .. احتفظ وجهها بجماله الآسر وكل ما فيه من فتنة .. وظل صوتها كما سمعته فى تلك الليلة .
     ونظرت إلىَّ طويلا ولما عرفتـنى .. ابتسمت ثم غابت الابتسـامة .. طواها أسى أخرس .
     فقد رأت الأهوال فى رأسى مشتعلة .. وارتجفت كما ترتجف أنثى .. وهى ترى الشباب يذهب من وجه الرجل .. الذى تعرضت للموت من أجله ، وما هو أشنع من الموت ..
     وبقيت أمامها لحظات صامتا أخرس .. ورأيت الدموع تتحرك فى عينيها .. ثم سمعت بكاء طفل فى الداخل .. فتركت النافذة ودخلت .
     وكنت وأنا اخطو فى الشارع الطويل الخافت الضوء أود أن أسأل الرجل .. هل فقد ساقه فى تلك الليلة المشئومة .. أم بسبب الغارات .. واسأله عن أمينة وأعرفه بنفسى . ولكنى وجدت السؤال يشوه جمال المسألة ..
     وكنت قبل كل شىء أود أن تظل الشعلة التى اشعلتها هذه المرأة كما هى .. مشتعلة ..











=====================================   
نشرت بمجلة الرسالة الجديدة 1/9/1957 وأعيد نشرها بمجموعة محمود البدوى " الأعرج فى الميناء" 1958
=====================================










العودة إلى البيت

خرجت مديحة من منزل زوجها غاضبة تجر ولديها وراءها وركبت " تاكسى " إلى محطة سيدى جابر وكانت فى الطريق إلى المحطة لاتزال غاضبة .. ولكن ذلك لم يمنعها من النظر فى مرآتها الصغيرة .. لتصلح من شعرها المنفوش .. وتمسح عبراتها وبدت حركة من ابنها الصغير جودت فضربته على خده فى قسوة مرة ثم مرة حتى بكى الغلام وأعول .. ولما دخلت المحطة وركبت القطار .. لم تجد مكانا فى الحريم .. فجلست فى أول مقعد صادفته .. وكان فى العربة رجل يجلس وحده بجانب الشباك .. وسيدة بصحبة رجل آخر .. وكانت السيدة سمينة منتفخة .. وفمها ضاحكا .. أما الرجل الذى يبدو عليه أنه زوجها فكان يقرأ " الأخبار " ولا يعير باله إلى شىء مما حوله .. وفى محطة دمنهور أطلت مديحة من النافذة لتشترى لطفليها " سميطا " فقد خرجوا جميعا دون افطار .. فلم تجد أى بائع على الرصيف فحزنت وقالت لنفسها :
ـ ما ذنب الأطفال .. حتى أعذبهم بالجوع ..
ورأت الرجل الجالس وحده ينظر إلى الغلامين بحنان .. وكان أنيقا مهذبا .. بعكس الآخر .. فقد كان سوقيا كزوجها حمدى ..
وسمع الرجل حديثها مع طفليها عن " السميط " فأخرج بعض قطع من الساندوتش وقدمها .. ولكن الغلامين استحيا ورفضا .. فألح عليهما بشدة .. ولكنهما رفضا أيضا .. فنظر إلى السيدة .. ورجاها أن تحملهما على القبول .. فنظرت إليه شاكرة .. وتناولت القطع ووزعتها على ولديها .. ورفضت هى أن تأخذ ..
ـ تفضلى ..
ـ مرسى .. أنا فطرت ..
فلم يلح .. وتناول الساندوتش صامتا .. ولاحظت خط المشيب الذى يزحف على رأسه .. والأسى المرتسم على الشفة .. وأدركت أنها أمام رجل خبر الحياة وغاص فى أعماقها ثم نفض يديه كلية من كل شىء .. وعاد يطفو على السطح ..
وظل يلاعب الطفلين ويضحك معهما .. ويحادثها حتى اقترب القطار من بنها فصمت وتجهم وجهه .. وقد عجبت لما اعتراه فجأة ..
وظلت واضعة يدها على خدها حتى دخل القطار محطة القاهرة ..
*** 
ودخلت مديحة بيت والدها .. والأسرة جالسة إلى المائدة تتغدى وقرأت المفاجأة فى الوجوه .. ولكنهم لم يتوقفوا عن الطعام وبادلوها كلمات قليلة .. ولم يحسوا بوجود أطفالها ..
وكانت متعبة فدخلت غرفة المرحومة والدتها لتستريح ..
*** 
وسمعت وهى فى غرفتها أخاها الأكبر رأفت يتحدث كعادته بصوت مرتفع مزعج .. ثم انقطع صوته فأدركت أنه خرج إلى القهوة ..
وكان الوالد قد غدا كهلا .. ومنذ أحيل إلى المعاش .. وهو لا يبرح الشازلونج فى غرفته .. ولا يرفع البطانية عن رجليه فى صيف أو شتاء .. ولاحظت من حاله أنه تغير ولم يعد له كيان فى البيت ..
*** 
وعرفت أسرتها أنها غاضبة من زوجها .. دون أن تحدثهم عن ذلك بصريح العبارة .. ورأت أنهم يعاملونها كضيفة وليست كفرد من العائلة ولم تدرك ذلك إلا فى هذه المرة بعد أن ماتت والدتها وأبعدت من زياراتها .. ورغم هذا عاشت معهم .. فكانت تود أن تكون منهم كما كانت وهى فتاة قبل أن تتزوج .. ولكن كل واحد من أخوتها كان منصرفا لشئون نفسه فى أنانية وجشع .. ولا يعنى بها ولا يعطف عليها وأدركت أنها أصبحت دخيلة .. ولا مكان لها فى هذا البيت .. وأنها منذ أن خرجت منه قد غدت من غير أهله .. وأن مكانها الطبيعى هناك فى الإسكندرية .. فى شارع تانيس .. ويجب أن تعيش مع زوجها مهما كان فظيعا وقاسيا .. وترضى بقسمتها ونصيبها فى الحياة .. وكانت تنتظر أن يتحدث زوجها مع والدها فى التليفون لتجد مبررا للمصالحة ولكنه لم يفعل فمنعها كبرياؤها أن تسأل عنه .. وكلما جاء البريد فى الصباح .. كانت تقلب فيه علها تعثر على رسالة بخطه .. ولكنها لا تجد شيئا .. فترتجف يدها حانقة .. ثم أخذت تلوم نفسها لأنها تركت بيتها نافرة لنزاع تافة يحدث بين كل الأزواج .. وكانت تنتظر الصدر الحنون فى بيت والدها .. ولكنها وجدت خلاف ما كانت تقدر ..
*** 
وكانت لها زميلة فى الدراسة تدعى سعاد وانقطعت مثلها عن المدرسة لتتزوج .. ولكن توفى زوجها بعد عام واحد .. وأصبحت سعاد أرملة .. فلما علمت بعودة مديحة من الإسكندرية جاءت إليها بسرعة .. وأخذت تسب الرجال وترميهم بالوحشية مع أن مديحة لم تخبرها بشىء عن خلافها مع زوجها ..
وفتحت مديحة لها قلبها لأنها صديقة قديمة .. ولأنها قبيحة .. ومسلية .. ومديحة فى حاجة إلى من يسليها ويرفه عنها فى محنتها .. ولهذا كانت تأتى إليها وتزورها فى كل وقت .. وتخرج معها لشراء الحاجات والملابس .. وترافقها فى حفلات النهار إلى السينما ..
*** 
وكانت مديحة تعمل فى بيت والدها .. ولكنها كانت تحس بالفراغ الكبير والملال والضجر .. ففى الإسكندرية كانت تخرج مع زوجها وأطفالها مرتين فى الأسبوع الواحد .. للنزهة فيذهبون إلى السينما أو إلى العشاء فى المكس .. أو إلى رأس التين عند أسرته .. ويقضون الأسبوع كله فى بهجة محببة .. وحتى العراك .. كانت تعقبه نزهة جميلة .. أما الآن فلا شىء .. فإنها تعيش وحيدة تجتر أحزانها حتى تلفت أعصابها .. وكان سلواها الطفلان وكانت تعنى بصحتها وتحب أن يبدوا فى أحسن مظهر .. وكانت قد سافرت ومعها عشرون جنيها فى حقيبتها .. ولكن بعد شهر واحد كاد المبلغ أن ينفذ فقد اعتادت على الصرف ..
وقدم لها والدها ورقة بخمسة جنيهات .. فقالت :
ـ لا يا بابا .. أنا معايا فلوس كثيرة وأنت عليك مصاريف .. ولسه محسن فى الجامعة .. وبتصرف عليه كتير ..
وكان محسن هذا أصغر أولاده وكان مدللا .. يدخن ويلعب القمار ويسكر .. وكان يقول لأخيه عزمى كلما سمع حس مديحة :
ـ أطلقت ولا إيه .. دى مصيبة .. البيت أصبح فوضى من عيالها .. ابنها جودت .. كل حاجة تقع فى إيده يرميها من البلكونة على الشارع .. الفرشة .. الشراب .. الساعة .. علبة السجائر .. المحفظة .. حنربى عيال الناس .. مصيبة وحلت علينا ..
وكانت مديحة تشعر بكل هذه النظرات التى حولها .. وبما يسببه طفلاها من مضايقة .. طفلا الرجل الآخر .. وبكل الكلام الذى يدور بين أفراد أسرتها تشعر به فى أعماقها دون أن تسمعه منهم .. كانت تعرف أنها دخيلة وأنه لم يعد لها وجود معهم .. وأن بيتها هناك فى الإسكندرية .. رغم كل ما فيه من مساوىء ..
وشعرت بحاجتها إلى المال لتشترى ملابس لنفسها ولولديها .. كما اعتادت أن تفعل وتصرف ولكنها لم تجرؤ على أن تطلب من أحد .. وكانت تنتظر من زوجها أن يرسل لها مبلغا ولكنه لم يفعل فزادها هذا غيظا ..
*** 
وذات يوم قالت لها سعاد :
ـ النهارده أنا عزماك على السينما ..
ـ ليه يا حبيبتى مرسى .. أنا تعبانه شوية ..
ـ التذاكر قطعتها وخلاص .. رواية جنان .. حتشوفى تسريحة أودرى هيبورن .. والنبى فيها ملامح منك ..
وضحكت مديحة .. وذهبت معها .. إلى السينما ..
وفى الانتراكت عندما أضيئت الأنوار .. تلفتت سعاد إلى رجل يجلس معهما فى نفس الصف .. وصاحت :
ـ عاصم بيه .. هو أنت هنا .. واحنا مش وخدين بالنا ..
وسلمت عليه وقدمته لمديحة .. فاغتاظت مديحة من هذه الحركة وعندما ابتدأت الرواية .. ظلت سعاد طول العرض تتحدث عن عاصم وثرائه الكبير وجماله وشبابه ..
وبعد أن انتهت الرواية .. خرجت مديحة بسرعة قبل الزحام .. لتأخذ الأتوبيس .. وسعاد وراءها .. ولكنهما وجدا عاصم يخرج بعربة أنيقة من شارع جانبى .. وأشار بأدب ..
وقالت سعاد :
ـ اتفضلى حيوصلنا ..
ـ لا .. اتفضلى .. أنت .. أنا مبركبش ..
ـ مش أحسن من البهدلة فى الأتوبيس ..
ـ اتفضلى .. أنا أروح ماشية أحسن ..
ـ أنت لسه .. قاعدة صغيرة .. يا مديحة .. دا جنتلمان .. هو حيأخذ مننا حتة ..
ـ اتفضلى أنت .. أنا مش ممكن أركب ..
ـ وأنا كمان مش معقول أسيبك وحدك ..
وغمزت لعاصم بعينها .. وسارت مع مديحة إلى الأتوبيس ..
***
وانقطعت سعاد عن زيارة مديحة بضعة أيام .. ثم تقابلتا عرضا فى شارع 26 يوليو وقد أمسكت كل منهما بلفة ..
ولم تتحدث واحدة منهما عن عاصم .. والسينما .. والسيارة ..
وكانت مديحة متأنقة فى ملبسها وتبدو فى أروع مظهر فنظرت إليها سعاد .. وقالت :
ـ أنت كده يا مديحة أجمل تلميذة فى المدرسة فأصبحت الآن أجمل امرأة فى الدنيا ..
وسرت مديحة ..
وزادت بها صلة ومودة .. وأصبحتا تخرجان إلى السينما وإلى زيارة بعض صاحباتها .. وتذهبان معا إلى الخياطة .. وإلى الحلاق ..
كما كانت سعاد تجىء إلى بيت مديحة .. وتمكث فى حجرتها ساعة وساعات تقص عليها أخبار النساء .. وفضائحهن .. وحوادث الطلاق بسبب الغيرة .. وعدم الانسجام ..
***
وكانت مديحة تظل ساهرة بعد أن تتركها سعاد وحدها فى حجرتها إلى قرب الفجر تتقلب فى الفراش وتتعذب .. فإن أسوأ ما كان يمر بها فى بيت الزوجية هو عراكها مع زوجها لأتفه سبب لأنها عصبية .. وكانت تنهشة كالنمرة .. فيثور وينقض عليها ويصفعها بقوة صفعة تدير رأسها .. فترتمى على الفراش تبكى .. وتسبه وتغمض عينيها وتنشج .. ثم تحس به بعد قليل يمسح على شعرها وكتفيها دقيقة ودقيقتين وعشرا حتى تلين وتهدأ وتصفو الزوبعة .. وتجد نفسها عندما يقترب منها وينظر إلى عينيها بحنان وقوة تشده إليها فيطوقها ويروحان معا فى مثل مد البحر ..
أما الآن فلا شىء غير الفراغ والوحدة والحنين إلى الرجل .. أيا كان .. وعضت على شفتيها .. وأغمضت عينيها ومرت فى مخيلتها صور الرجال الذين التقت بهم واشتهتهم .. ثم أبعدتهم الحياة عنها .. وعاشت لزوجها حمدى .. لرجل واحد ..
***
وعصر يوم مرت عليها سعاد وخرجتا لشراء بعض الأشياء .. وبعد أن فرغتا من الشراء قالت سعاد :
ـ عمرك .. ما زرتينى يا مديحة فى بيتى الجديد ..
ـ لازم أزورك يوم يا سعاد .. معايا العنوان ..
ـ وإيه رأيك أورهولك دلوقت أحسن ..
ـ بس اتأخرنا والأولاد .. لازم أعشيهم ..
ـ بدرى احنا لسه المغرب ..
وركبتا الأتوبيس إلى حدائق القبة .. وأرتها البيت وسرت به .. وخرجتا إلى الشارع العمومى .. ووقفت سعاد معها حتى تركب الأتوبيس .. وطال الانتظار .. وجاءت بجانبهما سيارة وتوقفت .. وكان يقودها عاصم .. وتحت الالحاح الشديد .. ولأن أعصابها تحطمت فى انتظار الأتوبيس ركبت مديحة سيارة عاصم ومعها سعاد .. وتكلم معها برقة .. وانطلق بالسيارة يتهادى .. حتى اقترب من الشارع الذى فيه بيتها فأنزلهما معا ..
وأصبحت مديحة تشعر براحة نفسية كلما زارت سعاد فى بيتها وجلست معها تتحدث وتريح أعصابها فى هذا الحى الهادىء الجميل ..
***
وذات يوم تركتها سعاد فى الشقة وحدها .. وخرجت لتجىء بشىء من السوق .. وسمعت مديحة جرس الباب يدق .. فنهضت لتفتح .. وهى تتصور أن سعاد نسيت المفتاح .. ولكنها وجدت عاصم .. وحيا ودخل فى هدوء دون استئذان ..
ـ أمال فين سعاد ..؟
ـ فى المطبخ ..
ـ دى بره ..
ـ شفتها ..
ـ لا .. ولكن مش سامع لها حس ..
واقترب ليجلس بجانبها على الكنبة فابتعدت عنه ..
ـ أنا مش جربان ..
ـ من فضلك أقعد كويس ..
وجلس بعيدا عنها يدخن .. ونظرت هى إلى الباب الخارجى .. تتوقع عودة سعاد فى كل لحظة وكان قلبها يدق بشدة .. وكانت تود أن تخرج بمجرد أن دخل هذا الرجل .. ولكنه كان قريبا من الباب ولا تود أن تظهر أمامه بمظهر الضعيفة .. وكانت تخشى الفضيحة .. أكثر من أى شىء .. فأخذت تفكر فى حيلة تخرجها من هذا الفخ .. ونهضت ودخلت المطبخ لتبحث عن سلم هناك للخدم .. فلم تجد فعادت ووجدته واقفا فى طريقها .. وأمسك بيدها فدفعته بقوة .. وجرت إلى الصالة .. فلحق بها وطوقها وألقاها .. على الكنبة .. وأخذ يقبلها بنهم فصرخت وكتم صراخها .. ولمحت عيناها زهرية فخارية على منضدة قريبة من الكنبة .. وتظاهرت بالاستسلام له .. وبأنها تود أن تخلع ملابسها .. حتى تناولت الزهرية وضربته بها .. واندفعت إلى الباب وخرجت تجرى فى الظلام كالمجنونة ..
وعندما بلغت بيت والدها أغلقت عليها حجرتها بالمفتاح .. وانطلقت تبكى وتنشج حتى جفت عبراتها ..
***
وفى الصباح .. كانت تتحرك فى البيت كالشبح دون أن تحس أو تعى شيئا .. كانت على يقين أن الرجل مات بعد هذه الضربة ..
وكانت كل أمنيتها الآن لتستريح من هذا العذاب المدمر أن يأتى البوليس لتعترف بالفضيحة كاملة ..
وكانت ترتعش من الخوف والعذاب والتفكير المعذب .. وتجلس على الكرسى الساعات الطوال كالمشلولة دون حراك ودون حس ودون أن تدير حتى رأسها ..
وكانت تتمنى من كل قلبها أن تأتى سعاد وتحدثها بما جرى وكيف جاء الاسعاف ولفظ الرجل أنفاسه فى الطريق عليه اللعنة ..
***
وفى اليوم التالى وجدت نفسها تجر الطفلين .. وتذهب إلى حدائق القبة .. ونظرت إلى بيت سعاد من بعيد فلم تجد أحدا .. ولا حتى نافذة مفتوحة ..
ودارت ببصرها تحملق فى المكان وفى الحى وفى كل ما حولها .. ثم عادت إلى بيت والدها ..
وفى الليل وبعد أن نام الطفلان أغلقت باب غرفتها وأخذت تبكى ..
***
وظلت ثلاثة أيام كاملة محبوسة فى البيت فلم تخرج وفى اليوم الرابع خرجت ومعها ولداها .. كأنها تطلب منهما الحماية .. وفى شارع عدلى .. بصرت بالرجل .. بعاصم .. بلحمه ودمه يوقف سيارته .. وقد وضع على صدغه لزقة بيضاء .. فطارت من الفرح .. وكادت أن تصرخ فى الشارع ..
***
وفى اليوم التالى أخذت أول قطار ذاهب إلى الإسكندرية .. وعندما دخلت الصالون استغربت .. فقد وجدت الرجل نفسه الذى التقت به فى القطار منذ شهرين .. وأعطى الساندوتش لولديها ..
ونظر إلى الطفلين نظرة حنان .. وقال :
ـ راجعين البيت ..
ـ أيوه ..
 وأنا كمان راجع .. فقد التأم الجرح ..
ـ جرح ..
ـ نعم .. فقد عضتنى فى ذراعى .. وها هى أسنانها ..
وضحكت مديحة من الحرية .. ومن الفرحة .. بعودتها إلى بيتها .. ومن التقائها بهذا الإنسان النبيل للمرة الثانية .. ولقد تمنت فى أعماقها أن يكون زوجها .. واشتهت ذلك ولم تر فى هذا التمنى خطيئة .. وسأل الرجل المهذب أحد الطفلين :
ـ وبابا أزيه دلوقت .. أحسن يكون مرض بعد ما سبتوه ..
فردت مديحة بسرعة :
ـ دا زى الحصان .. عمره ما يمرض ..
ـ هذا هو المهم .. والباقى توافه .. هذه هى السلسلة التى .. معذرة .. فأنا لا أحب أن تكون الزوجة مجرد ممرضه لزوجها .. هذا بشاعة ..
وابتسمت مديحة فى رقة .. وفكرت فيما كان يود أن يقوله الرجل المهذب ..
هذه هى السلسلة التى تربط الرجل بالمرأة ..
السلسلة التى جذبتها وعادت بها إلى بيتها ..
========================
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 171 بتاريخ 4/4/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الأعرج فى الميناء " سنة 1958
========================      





















مكتبة فى الممر

بعد أن أتم مختار دراسته .. لم يتجه إلى الوظيفة كغيره من الشبان .. وإنما فكر فى الاشتغال بالأعمال الحرة ..لأنه يعشق الحرية .. ولا يحب القيود .. ووجد أن أنسب الأعمال وأحبها إلى نفسه أن يفتح محلا لبيع الساندوتش يضع فيه أحسن أنواع الجبن والزبد واللحوم المحفوظة وغير المحفوظة .. واختار المحل فعلا فى حى شعبى .. ولكنه لم يجعله على غرار المحلات الشعبية وإنما نظفه ورتبه .. ودهنه بالزيت ووضع فيه الرخام والبلاط القيشانى والمرايا من البللور الخالص .. والموائد الصغيرة والزهور والأكواب الكريستال والمناشف المعقمة ولهذا كان يبيع الساندوتش الواحد بقرشين بدلا من قرش ..
ولكن الجمهور كان يجرى وراء الأرخص ولا يعنى بالنظافة والجودة ولا يقدر لها قيمة .. فخسر مختار فى هذا المحل الصغير مئات الجنيهات ثم أضطر بعد ثمانية شهور إلى إغلاقه كلية وباع ما فيه من أدوات ..
ولكنه كان مناضلا فلم يعتوره اليأس واتجه إلى شىء آخر .. فكر فى مكتبة .. ووجد دكانا صغيرا بقلب القاهرة فى ممر بداخله سينما وعمل التصميم .. وصنع له النجار الرفوف .. وابتدأ يضع الكتب الإنجليزية والفرنسية والإيطالية فى صفوف منسقة .. وترتيب رائع حسب الطبعات .. فوضع الطبعات الشعبية وحدها .. ثم الطبعات المجلدة .. ثم الطبعات ذات الأغلفة الملونة ..
وكانت المكتبة تعلو عن الممر بمقدار درجتين .. فرأى أن يستغل هذا العلو بعرض المجلات فى المدخل وفعلا علق لوك .. وليف .. وسينى موند .. وأبوجا .. وايفا .. وفرو فرو .. وتمبو .. وفستو .. واجى .. ثم أضاء المكتبة بالأنوار القوية .. التى تلفت الأنظار .. ورغم كثرة الداخلين والخارجين فى الممر .. فإنه لم يأت فى الشهر الأول والثانى حتى بنصف الإيجار ..
*** 
ورأى أخيرا أنه أساء اختيار الموقع .. فالداخل إلى السينما .. يشبع من الحوادث .. ومن مارلين منرو .. وريتا هيوارت .. وأفاجاردنر .. ويكتفى بهذا عن القراءة .. وتذكر دوهامل وقال أنه على حق عندما نبه إلى خطر السينما على الكتاب .. وفكر مختار أنه قد يكون لشكله القبيح وصوته الغليظ دخل فى نفور الناس .. ورأى أن يأتى ببائعة للمكتبة تدير شئونها ويبتعد هو ..
وبحث عن فتاة جميلة وساعده الحظ فعثر على فتاة أجنبية حلوة وشابة تدعى ماريا .. تتكلم اللغات الثلاث ..
وترك لها المكتبة .. ولكن مر شهران آخران ولم يتغير الحال فالبيع قليل جدا .. بالقياس إلى الحركة فى السوق .. وكان يغيظه أنه كلما جاء إلى المكتبة وجد ماريا جالسة على كرسى فى الداخل ضامة رجليها ومنكسة رأسها تقرأ فى كتاب أو مجلة .. وظهرها إلى الطريق .. وكان يغضب ويثور .. ويحاول أن يجعلها تتحرك .. وتقلع عن هذه العادة .. ولكن الداء كان متمكنا منها فذهبت كل محاولاته لمنعها من المطالعة على هذه الصورة عبثا ..
***
ولاحظ أن معظم المارين فى الممر .. يقفون على الواجهة .. وينظرون إلى أغلفة المجلات .. التى تعرض السيقان الجميلة ..
فنظر إلى ساقى ماريا البائعة عنده وهى تصلح وضع الجورب .. وراعه ما فيهما من فتنة .. بل أدرك أنه لا يوجد لهما مثيل فى الحسن .. ولكن لا أحد من المارين على المكتبة يراهما لأنها تجلس منكمشة فى الداخل ولمع فى رأسه خاطر وقال للفتاة :
ـ أرجوك بدلا من الجلوس فى الداخل أن تجلسى .. هنا فى المدخل .. فربما سرق بعض الغلمان .. المجلات وأنت غافلة ..
وقبلت ماريا وجلست فى المدخل ووجهها على الطريق .. وساقاها العاريتان تحت الأنظار ..
ورأى المارة ساقيها الفاتنتين .. فوقفوا أمامها مسحورين .. ثم أخذوا يدخلون المكتبة .. وينتقون المجلات والكتب .. ويشترون ..
وبعد شهر واحد .. جاء مختار بفتاتين أخريين تساعدان ماريا فقد كثر الزبائن .. واشتدت الحركة فى المحل ..
وكان عمل ماريا الوحيد هو أن تجلس فى المدخل ..
========================= 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 421 بتاريخ 5/2/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الأعرج فى الميناء " سنة 1958
=========================





















الطاحونة

     زاد نشاطى وعملى فى الطاحونة بعد وفاة المرحوم ماهر ، فقد كنت أحب الرجل الذى وضع فى فمى لقمة العيش بعد الجوع والبطالة وأخلص لذكراه .. وأود أن تسير الحياة فى الطاحونة وخارجها كما كانت .. لأن أرملتـه نجيـة لاتستطيـع أن تفعل شيئا وحدها فى قرية " عامر " ولو جاءت برجل يعينها فسيأكل قوتها وقوت عيالها .. هذا ما قدرته ..
     وكان المرحـوم ماهر قد اشترى هذه الطاحونة بعد عودته من بحرى .. عاد ومعه ألف جنيه .. ونجية .. وأشار عليه الناس الطيبون فى البلد بأن يشترى طاحونة عبد السميع .. وكانت متعطلة فاشتراها .. وأصلح الوابور وأدارها .. وجعلنى المحصل فيها وكاتب الحسابات بها لأنه لايعرف القراءة ..
     وكانت الطاحونة بحجرين ولكنا كنا نكتفى باستعمال حجر واحد نطحن به الأذرة والقمح .. وأصبح الحجر الآخر شبه معطل ثم أصبح " يعاكس " عندما كنا نستعين به فى أيام الأعياد والمواسم .. وكانت هذه الطاحونة هى الوحيدة فى القرية وعملاؤها جميعا من النساء .. فمن هو الرجل فى القرية الذى يحمل مقطفا .. على رأسه ويذهب إلى وابور الطحين .. وكانت الطاحونة تدور على الأذرة .. فى معظم الأيام .. ولا يظهر القمح فى " القادوس " إلا فى الأعياد ..
     وكان فى القرية ثلاثة بيوت غنية تأكل القمح طوال السنة .. ولكنها لم تكن تطحن عندنا .. كانت تطحن فى البندر .. لأن طحيننا " أسمر " وليس فى الوابور " منخل " ..
     ولكن عندما وضعت القيود على المطاحن فى أيام الحرب الحالكة جاءوا إلينا .. وكنا نوقف طحن الأذرة .. لنطحن لهم القمح خالصا من كل خلط .. وكنت أسمع الفلاحات الواقفات فى الحوش .. يعلقن على هذا :
     ـ استنى يا أختى .. للمغرب .. الوابور داير للذوات .. قمح .. ودقيق .. غريبة .. مين يفكر فى الفقرا.. يا حبيبتى مين ..
     ـ هو دا وابور .. يسد بيت صحابه ..
     وكانت تقول هذا شريفة كلما دخلت حوش الطاحونة .. وكانت طويلة مياسة وبيدها عصا من الجريد أطول منها ..
     وكنت أسمع هذه الشتيمة مائة مرة حتى بعد أن مات ماهر وانسد البيت فعلا .. ولا أستطيع أن أتكلم .. لأننى اعتدت على هذه الشتائم ومثلها وأكثر منها .. ولم أكن أعرف لماذا يشتمن .. إذ أن شكواهن كانت عامة ولا تتناول شيئا بعينه ..
     وكان عبد الموجود يرد على الشتائم ويعلو صوته على حجر الطاحونة ..
     وفى هذه الدوامة وتحت ضجيج الآلات وزعيق النساء كنت أعمل وراء حاجز خشبى وأجلس إلى مكتب قديم .. وأقيد الايراد فى دفتر صغير يعلوه التراب والدقيق .. وكان الدقيق يعلو جلبابى ووجهى ..
     وكان ماهر يعطينى .. خمسة جنيهات فى الشهر .. وكنت قانعا بهذا المرتب .. سعـيدا به .. لأننى أحسن من أخوتى الذين يعملون فى الحقول ..
    وكان الوابور بجانب الجسر قريبا من " الموردة " .. كانت بنايته أول شىء يصادفك وأنت طالع من النيل .. ولهذا كان بعض الفلاحات من الجزر القريبة يحملن مقاطفهن ويجئن إلينا فى أيام السوق لأنهن يجدن اللنش فى هذا اليوم شغالا على خط واسع من منفلوط إلى أسيوط ..
     وكنت أنا الذى سقط فى امتحان الابتدائية ثلاث مرات .. والذى ضرب معلم الحساب وفصل من جميع المدارس وضاع مستقبله .. أدير الطاحونة بعد أن مات صاحبها أحسن ادارة .. وأقوم بعمل ثلاثة رجال وعندما كنا نسهر كنت أريح أسطى الماكينة وعامل " القادوس " .. وكنت أعطى نجية فى أخر اليوم الإيراد .. أذهب إلى بيتها بنفسى .. كنت أضع القروش .. مع الفضة مع أوراق النقد الصغيرة .. أصر هذا كله فى منديل .. وأذهب إلى الدار .. أدفع الباب وأدخل إلى المجاز وأنا أقول :
     ـ يا ساتر ..
     إذ لم تكن نجية تظهر علىّ قط .. رغم أنها بحراوية من المنصورة ومن منطقة شجرة الدر .. وعندما جاء بها طاهر حجبها كلية عن الأنظار وكان الناس يتغنون بجمالها .. ولكننى لم أكن بعد عشرة دامت ستة أعوام قد رأيتها رأى العين .. أو وقع نظرى عليها وهى سافرة .. كان هذا والرجل حى .. وبعد موته حافظت على ذكراه .. فلم أرها قط .. وكنت أجلس فى المجاز ونظرى إلى الأرض ..
     وتقف هى على درج السلم منزوية .. وأناولها المنديل بالنقود .. وفى الأسبوع الأول لوفاة المرحوم كانت بعد أن تتناول المنديل تنخرط فى البكاء .. وكنت أقدر ظروفها ..
     ـ شدى حيلك .. يا ست .. لازم تشدى حيلك .. قدام الأولاد دا أمر ربنا ..
     ولم أكن أسمع كلاما .. وإنما بكاء يستمر مدة .. وشهقة وشهقات ثم أرى منديلا صغيرا يجفف هذه الدموع ..
     وكنت أرى وأنا جالس ذيل الثوب الأسود الطويل .. والقدم الصغيرة فى الشبشب .. ولكثرة ما تعودت أن أنكس رأسى وأنا فى بيتها .. لم أكن أغير هذا الوضع .. حتى وأنا أداعب ابنها عبد الفتاح ..  
     ثم تطور الحال بعد أن رغبت فى أن تعرف كل أحوال الطاحونة وأصبحت تجلس أمامى .. وهى ملثمة ومغطية رأسها بالطرحة ..
     وكانت بعد وفاة المرحوم مباشرة ترغب فى أن تبيع الطاحونة وتذهب بأولادها إلى أهلها فى المنصورة ..
     ولكنى كنت أعارضها .. وأقول لها :
     ـ أن أولادها سيكونون غرباء هناك .. ويجب أن تبقى لتربى عبد الفتاح .. حتى يفتح بيت أبيه ..
     وعندما رأت الطاحونة دائرة والإيراد لم ينقص وافقتنى .. وكان معظم القرويات المترددات على الطاحونة من الصبايا .. لأن العجوز لا تستطيع أن تحمل كيلتين وثلاث كيلات من الغلة على رأسها .. وكن يجلسن فى حوش الوابور بجانب مقاطفهن يتحدثن .. أو يصمتن .. والفلاحة بطبعها قليلة الكلام .. كثيرة العمل .. وقد تعلمت منهن فى جلستهن الطويلة الصبر ..
     فمنهن من كانت تجلس فى انتظار دورها من السابعة صباحا .. إلى الثانية بعد الظهر .. دون أن تتذمر أو تأكل أو تشرب شيئا ..
     وكانت عملية الطحن نفسها رغم ما فيها من مشقة وتعب ممتعة للغاية .. وكنت أنسى التراب .. وغبار الدقيق .. وصوت الحجر الدائر وهزات الخشب وزعيق النساء .. أنسى هذا كله لأننى أعمل وأدير وحدى الطاحونة بعد موت صاحبها ..
     وكنت قد بلغت الخامسة والعشرين وأفكر فى الزواج ككل شاب فى القرية .. وكانت نعيمة بنت الريس جلال .. هى التى وقع عليها اختيارى لأن والدها مراكبى .. ويعمل مثلى بعيدا عن الغيط والفلاحة وأنا أفكر إذا ساعدتنى ظروف الحياة .. أن أقيم مطحنا فى المدينة .. ونعيمة ما دامت غير لاصقة بالأرض ستذهب معى حيث أذهب ..
     هذا ما فكرت فيه وعملت له وأخذت أوفر ثلاثين جنيها لأعطيها لوالدها كمهر .. والرجل قادر على تجهيز بنته ..
     وكان كل شىء فى الحياة والطاحونة يبلغنى هذا الهدف .. فالطاحونة زاد ايرادها اليومى بعد وفاة المرحوم ماهر ولم ينقص .. ورسخ قدم نجية فى البلد .. لتربى عبد الفتاح .. ليأخذ مكان والده .. وأصبحت تستشيرنى فى كل الأمور .. وكان عبد الحكيم الأخ الأكبر لماهر قد تقدم إليها ليتزوجها .. وقال لها أن غرضه تربية أولاد أخيه ولكنها رفضت ولم يكن رفضها لأنه متزوج وسيجعلها زوجة ثانية وانما لأنها كانت تعرف أن غرضه الأول هو الاستيلاء على الطاحونة التى جاهد ماهر وشقى فى الحياة حتى حصل عليها .. فكانت تعرف أن ماهر خرج من البلد منذ سنين فقيرا معدما ليجرى على معاشه .. وسافر فى مركب .. ولم يقبل على نفسه أن يقترض من أحد من أهله أجرة السكة الحديد .. كانت تعرف هذا ..
     ـ ودلوقت جاى عبد الحكيم .. علشان يجوزنى .. لأ .. ومتخلهش يدخل الطاحونة ..
     والواقع أنه لم يكن يدخل الطاحونة .. وزادت مسئوليتى وأعمالى وأصبحت نجية تثق في ثقة مطلقة ..
***
     وكنت أجلس منكس الرأس فى " المجاز " كعادتى .. ولكننى لم أكن أرى قدميها .. والشبشب .. كما كنت أفعل فى أول عهدى بها .. وانما كنت أرى جسمها كله فى ردائه الأسود .. وطرحتها الخفيفة على رأسها .. لأنها غيرت مكانها وهبطت من بسطة السلم ثلاث درجات وأصبحت فى مواجهتى .. فلا يفصلنا جدار السلم الدائرى .. الآن .. وإنما يفصلنا شىء آخر .. شىء آخر غير مرئى لكلينا .. شىء مغيب فى التراب .. ولكن .. لم أكن حتى هذه اللحظة قد رأيت وجهها ..
     وانما رأيت العينين فقط .. العينين الخضراوين .. من " البحر الصغير " .. أو من شجرة الدر .. فإن المراكبية فى بلدى كانوا يتحدثون كثيرا عن " البحر الصغير " ولا يعرفون شجرة الدر .. ثم حركة الشفتين من وراء الطرحة المطوية ولا أدرى لماذا تعلمت أن تتلثم كالصعيديات .. لاشك أنها كانت تحافظ على تقاليد المرحوم ..
***
     وكان فى القرية قهوتان .. قهوة على الجسر قريبة من المسجد وقهوة فى الدرب .. ولكنى لم أكن أجلس فى الليل فى واحدة منهما .. لأنى لا أحب رائحة " الحسن كيف " ولا التمباك .. ولا أشرب الشاى الأسود .. وإنما كنت أخرج من الوابور .. وأذهب إلى الموردة .. وأجد فيها أربعة أو خمسة مراكب كبيرة من مراكب بلدنا .. رست فى الموردة ليزور ملاحوها أهلهم ثم يستأنفوا سيرهم إلى مصر .. أو إلى أسوان .. وكانت هـذه المراكب محملة بالقطن أو الغلة .. أو البلاليص إلى أقصاها .. وبينها وبين الماء مقدار خمسة قراريط .. 
     وكنت أنزل فى أقرب مركب .. وعند الدفة .. أغتسل من الدقيق والتراب .. أو أخلع ملابسى وأغطس .. فى الماء وأخرج لأنشف جسمى بيدى .. وأرتدى ملابسى .. وأصلى المغرب والعشاء .. وأجلس بعد ذلك أسمر مع الريس حمدان ومن معه من المراكبية وكنت أحبهم جميعا وأحب حياتهم فى النيل .. حتى أحس بالنوم .. وفى بعض الليالى كنت أنام بجوار الدفة إلى الصباح ..
     ولا أدرى لماذا كنت أتصور وأنا جالس فى مؤخرة المركب .. أنه مبحر .. ونجية وأطفالها الثلاثة بجوارى ووضعنا فى المركب عفش البيت كله .. ولم ننس حتى الزير وأننا ذاهبون إلى مصر ..
     ولا أدرى لمـاذا تصورت هـذا فى تلك اللحظة .. ولم أتصور أن
بجوارى نعيمة .. مع أننى كنت أعمل بكل امكانياتى على الزواج من هذه الفتاة الطيبة .. وكانت أمها تعرف ذلك وان لم نقرأ الفاتحة ..
***
     وفى ليلة من ليالى الصيف وكنت أجلس مع بعض المراكبية على ظهر المركب .. لمحنا مع شعاع القمر الأول شيئا أسود يقترب منا .. ثم يصطدم بالمركب .. وجذبه أحد الملاحين ووجدناها فتاة من القرية مخنوقة حديثا وبدأ بطنها ينتفخ ..
     وأشاع أهل القرية أن زهرة خنقها أهلها فى وابور الطحين .. ثم ألقوا بجثتها فى الماء .. وأن روحها تسكن فى الوابور وتصرخ فيه كل ليلة من ظلم أهلها ووحشيتهم .. فقد أثبت الطبيب الشرعى أن الفتاة ماتت عذراء .. ومع أننى أغلق الوابور بالمفتاح .. والخفير يسهر عليه إلى الصباح .. فقد صدق أهل القرية هذه الاشاعة ..
     وزادها توكيدا أن " بستم الوابور " انكسر بعد حادث الفتاة مباشرة وحملناه إلى الورشة وتعطل الوابور .. عشرة أيام كاملة .. ثم أصيب أسطى الوابور فى يده .. وسقط عبد الموجود من فوق الحاجز الخشبى بجوار " القادوس " وكادت أن تدق عنقه ..
     وأخذ الناس ينسجون حول روح زهرة الأساطير .. حتى خاف أهل القرية جميعا .. أن يمروا بجوار الوابور فى الليل .. وحتى خاف الخفير .. نفسه .. وأبعد عن الوابور ..
     وكنت أقاوم هذه الاشاعات بكل ما أملك من قوة وصبر .. ولحمنا " البستم " وعاد الوابور يتك .. ولكن الفلاحين لم يصدقوا أعينهم وتحول عنا نصف العملاء .. ذهبوا إلى القرى البعيدة .. وعندما تعطل الوابور مرة أخرى .. بقى القليل منهم ..
     وكنت أكافح وحدى .. فقد تحطمت أعصاب كل من كان يعمل معى فى الوابور .. وصدقوا الاشاعة .. وسرت إلى أعماقهم .. وقل الايراد وأصبحنا لانحصل إلا على قروش قليلة فى اليوم .. وضاع كل ما كان موفرا لدى نجية فى الاصلاحات .. فقد كنا نحل بعض آلات الوابور كل أسبوع ونذهب بها إلى الورشة ولم يبق معها أى شىء .. وعجزت عن دفع أجرة الأسطى فذهب يوم الخميس يعود أهله .. ولم يعد .. فقررت أن أدير الماكينة بنفسى لأننى تعلمت من كثرة ملازمتى للأسطوات كيف تدور وكان أهم شىء عندى أن يرى الفلاحون " العادم " يخرج من الماسورة وأن يسمعوا صوت " الكرنك " وليس المهم أن يطحنوا .. وانمـا المهم أن يعرفوا أن الوابور دائر ولم يتعطل إلى الأبد ..
***
     وكنت أذهب فى هذه الأيام الحالكة إلى بيت نجية .. كل مساء وقالت لى ذات ليلة :
     ـ عاوزة أبيع الوابور ..
     ـ ستخسرى كثير دلوقت .. تبيعيه بتراب الفلوس ..
     ـ تعبت وما عدش فيه فايدة .. وابور منحوس عاوزة أوكل العيال مساكين ..
     وكانت حالتها محزنة فتأثرت .. ووضعت يدى فى جيبى وأخرجت لها الثلاثين جنيها مهر نعيمة ..
     ـ إيه دول ..؟
     ـ علشان تصرفى على الوابور .. تشترى غاز وزيت .. وتدفعى منهم أجرة عبد الموجود .. وحسنين .. والباقى خليه معاكى ..
     ـ أنت بقالك ثلاثة أشهر ماختش ولامليم ..
     ـ معلهش بكرة آخد .. وتزيد أجرتى ..
     ـ مش ممكن آخـد منك مليم .. كمان أحرمك .. من عرق جبينك ..
     ـ إن مكونتيش حتخديهم دلوقت .. حاسيب البلد وأمشى من بكرة ..
     تمشى تروح فين .. أنا مقدرش أعيش من غيرك ساعة ..
     وأسفرت عن وجهها فى تلك اللحظة .. جعلتها المحنة التى نزلت بنا والتى جمعتنا تسفر .. ورأيت وجهها أبيض مستطيلا نقى البشرة وشفتين رقيقتين ناعمتين يكتنز فيهما الدم .. وقالت وكأنها ترانى لأول مرة :
     ـ يعنى انت كبرت وطولت يا عبد الله .. وبقيت راجل أمال مجوزتش ليه ..؟
     ـ حجوز ..
     ـ مين ..؟
     ولا أدرى لماذا لم أقل لها نعيمة بنت الريس جلال .. والواقع أن نعيمة لم تكن فى ذهنى فى تلك اللحظة وإنما قلت :
     ـ أى واحدة بنت حلال .. كل بنات البلد بنشوفهم فى الوابور ..
     ـ أوعى تكون اتلميت على أم توحيدة .. بيقولوا محوشة قرشين وبتعرض نفسها على الرجالة ..
     ـ ومين غيرها ينفعنا فى الأزمة دى ..
     ـ أوعى أزعل منك ..
     وجلست على السلم تعد النقود .. وكانت تعلونى بمقدار أربع درجات .. وأنا جالس القرفصاء .. ووجهى إلى الأرض .. وعندما رفعت رأسى .. رأيت ما يعلو القدم من الساق .. بمقدار شبر .. ولم تكن هناك دمالج ولا خلاخيل .. ورأيت طرف القميص الأزرق تحت ثوب الحداد ورأيت استدارة الجسم كله فى خط مائل .. فلم تكن نجية معتدلة فى جلستها ..
     وشعرت بضربات قلبى كالمطرقة وأنا أسمع صوتها ولم يكن الصوت الذى ألفته .. كان يقطر عذوبة ورقة ..
     ـ يعنى دول ثلاثين ..
     ـ أيوة ..
     ـ مهر الجواز .. وليه أحرمك منه ..
     ـ دى فلوسك يا ستى ..
     ـ أخـدهم علشـان ما تزعلش .. بس أوعى تتلم على أم توحيدة ..!
     وكانت تبتسم وتنظر إلىّ بكل أنوثتها وكل فتنتها .. وشعرت فى تلك اللحظة .. بالفاصل الذى كان بينى وبينها قد انزاح ولم يعد له وجود ..
     ومن تلك اللحظة استولت نجية على جسمى وعقلى ..
***
     وكانت المحنة مستمرة .. ولم تتحسن أحوال الوابور .. كانت روح زهرة لا تزال مسيطرة على أهل القرية ..
      وحدث أن تعاركت مع أحد الفلاحين وقد غاظنى أنه أخذ يروى أمامى أنه شـاهد روح زهرة فى الليل على شكل كلب مسعور .. يعوى .. انقلب إلى ذئب .. ثم إلى ضبع .. فضربت الرجل لأقطع لسانه عن هذا الكلام ..
 وذهبنا إلى النقطة وحبسـنا معـا ثلاثة أيام .. وفى اليوم الرابع أخرجونى .. وعلمت من حسنين أن نجية ذهبت فى الليل إلى النقطة ليخرجنى الضابط وجننت وأنا أسمع منه هذا الكلام .. ولم أدر ما الذى ركبنى فى تلك الساعة فقد كنت فى حالة جنون تام .. ودفعت الباب برجلى ودخلت .. ولما أحست بى نزلت ..
     وارتاعت لما رأته على وجهى من الغضب .. إذ تصورت أن الوابور انكسر ومصيبة جديدة حاقت بنا ..
     وسألتها :
     ـ رحت النقطة ..؟
     ـ أيوه .. وكان معـايا الشيخ رفعت وكيل العمدة .. وعبد الفتاح ..
     ـ وعلشان إيه تروحى .. ما عندناش نسـوان تخرج وتروح النقطة ..
     ـ كان معايا الشيخ رفعت قلت لك ..
     ـ دا عيب منك فضحت الراجل فى قبره ..
     ـ أنت ملكش أمارة .. علىّ ..
      وتطور الحديث .. فصفعتها .. ونسيت أننى أجير عندها ..
     وجلست منزوية تبكى صامتة ولم تسبنى أو توجه إلىّ أى كلام .. وإنما أخذت تشهق ..
***
     وكنت أنتظر بعد هذا أن تطردنى من عملى فى الطاحونة ولكن لم يحدث شىء مما توقعته .. وظللت أعمل وأكافح حتى تحسنت الأحوال ودار الوابور وتك .. وأخذ نساء القرية يعدن إلينا بالتدريج ثم كثرن حتى ضاق بهن حوش الوابور ..
     وحدث أن تعطلت بعض وابورات الطحين فى القرى المجاورة .. فجاء أهلها إلينا .. وزاد العمل .. وتضخم ..
     وأحدثنا تغييرا مطلقا فى العدد .. وتصميم الوابور ..
***
     وكانت النار تشتعل فى قلبى وقلب نجية .. فتزوجتها لا لأطفىء هذه النار بل لأزيدها اشتعالا ..
     وفى صباح ليلة الزفاف .. سمعت الحجر الثانى يدور فى الطاحونة فابتسمت .. وأدركت أننا دخلنا .. فى حياة جديدة ..


===============================   
نشرت القصة بمجلة الجيل فى 19/9/1955 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " الأعرج فى الميناء "
===============================





الدوامة

كان سليم صاحب دكان للأحذية فى شارع ابن خلدون بحى السكاكينى وكان الدكان صغيرا وقديما مساحته لا تتجاوز مترين فى ثلاثة .. ومع هذا كان ممتلئا إلى السقف بكل أنواع الأحذية الرجالى والحريمى وأحذية الأطفال ..
وكان سليم يصنع أحذية جديدة أنيقة ويصلح الأحذية القديمة المتآكلة .. يحاول أن يعيدها إلى رونقها الأول ..
وكان أعور وقصيرا .. وضئيل الجسم .. وقد جعلته هذه الصفات كلها .. أقرب الأشياء إلى صنعته .. فلم يكن ينحنى .. وهو يدق المسمار .. كما أن عينه الواحدة جعلت بصره أكثر تسديدا وتركيزا .. ولهذا برع فى مهنته واشتهر ..
وكان أسوأ مافيه .. سوء النظام .. فأحذية السيدات تختلط بأحذية الرجال والأطفال فى فوضى عجيبة .. كما أن ذاكرته كانت ضعيفة جدا ..
فإذا سأله الزبون :
ـ الجزمة خلاص يا أسطى سليم ..؟
رفع عينه الواحدة .. وسأل ويده تضرب على النعل :
ـ جزمة مين ..؟
الجزمة البنى .. اللى جبتها يوم الخميس ..
ويصمت ويدور بعينه فى الصفوف وهو جالس .. ثم يضع الحذاء الذى بيده جانبا وينهض ويظل يبحث على الرفوف وتسقط الأحذية على الأرض ويزيد اختلاطها .. وبعد بحث طويل لا يعرف الحذاء ويدله عليه الزبون وهو غارق فى أكوام الأحذية .. ورغم هذه الذاكرة الضعيفة .. فالرجل كان يتمتع فى الحى بشهرة واسعة .. لثقة الناس فيه ومهارته .. فالحذاء القديم يخرج من يده جديدا ..
وفى عصر كثر فيه الغش فى الصناعة  واختلط الورق المقوى والكرتون بالجلد .. انفرد سليم بأمانة لا حد لها .. فالجلد عنده جلد وأسعاره شعبية ..
والأحذية الجديدة التى كان يعملها لم يكن يهتم بها كثيرا .. كان يصنعها كلما وجد الفراغ ويلقيها خلفه على الرف .. لأن عمله كله كان فى اصلاح القديم .. وكان يربح منه كثيرا ويدخر المال فقد كان وحيدا ولم يتزوج ..
***
وكان سليم مشغولا بعمله عندما دخل عليه .. كمال وهو شاب من أهل الحى .. وطلب إصلاح الحذاء الذى يلبسه فى الحال ..
ـ مستعجل يا ابنى .. أنت شايف أنا مشغول .. روح البيت وابعتولى أخلصولك بكره ..
ـ أنا ما عنديش غيره .. يا عمى سليم ..
ـ ما أقدرش ..
ـ أعمل معروف علشان الجيرة .. دنا ساكن معاك فى بيت أم رشيدة ..
ـ أنت .. عمرى ماشفتك ..!
ـ أنت ساكن تحت .. وبتخرج بدرى .. وأنا على السطوح .. وبنام للضهر ..
ـ للضهر ليه .. دانت شاب ..
ـ مفيش شغل .. بدور على وظيفة ..
ـ لازم عايز وظيفة كويسة ..
ـ طبعا .. أمال كنت بتعلم علشان إيه ..
ـ تعرف اليهودى .. اللى ساكن معانا فى البيت .. شفته ..؟
ـ شفته ..
ـ من الساعة خمسة لازم يكون فى الشارع .. بالشنطة .. بيركب أول قطر ويروح بنها .. طنطا .. المنصورة .. وكل اللى معاه .. شوية كرافتات وعايش مبسوط .. ولما تقول له أتوظف بألف جنيه .. وأقعد ..!!   
ـ عاوزنى أعمل زيه ..؟
ـ ليه .. لأ ..
ـ سمعنا الكلام ده كتير .. كفاية ..
ـ الجزمة يا ابنى اللى قدامك .. لو بعتها تكسبنى ثلاثين قرش .. وأنت تكسب ثلاثين زيها وأربعين ..
ـ عاوزنى أبيع جزم ..
وضحك كمال ..
وضحك سليم ونظر إلى جورب الشاب فلاحظ أنه مثقوب فى أكثر من موضع .. وأحس بالشفقة على حاله .. وصمت وانهمك فى رتق الحذاء حتى نسى أن الشاب يجلس بجواره ورفع بصره عن النعل فجأة إلى ساق جميلة .. تمتد أمامه ..
ـ الكعب طلع .. من فضلك صلحولى دلوقت ..
ـ نشوفه .. أنتو كلكو مستعجلين ..
ـ كان حيوقعنى على وشى ..
ـ أقلعيه ..
وجلست ناهد .. بجوار كمال .. وأصبح الدكان لا يتسع لمزيد .. يا ستى .. دا عاوز شغل كتير .. روحى .. وابعتيه ..
ـ مقدرش أروح بيه كده ..
ـ طيب ألزقه .. لغاية ما تروحى .. وبعدين أبعتيه .. علشان يصلح كويس ..
ـ مرسى ..
ـ ولاحظت ناهد بعد أن خلعت الحذاء الشاب الجالس بجوارها .. وكان وسيما قوى الجسم رغم مظاهر فقره ..
ودخل زبون جديد وأخذ حذاءه .. وعندما تناول منه سليم الأجر فتح درجا صغيرا .. ولاحظت ناهد أنه مكدس بالأوراق المالية ثم أغلق سليم الدرج سريعا واستأنف عمله ..
ولبست ناهد حذاءها .. وهى تقول :
ـ تقدرش تبعتلى ابنك دا علشان يأخذ الجزمة .. معنديش حد ..
ونظرت إلى كمال ..
ـ دا مش ابنى .. دا زبون زيك ..
واحمر وجهها .. وانصرفت ..
ولاحظها الشاب وهى منصرفة .. بقامتها الطويلة الرشيقة وجسمها اللدن .. وظل يتبعها ببصره وهى فى الشارع .. وكانت تمشى بحذر مخافة أن يسقطها الكعب الملزوق .. وقد جعلتها هذه المشية أكثر إغراء وفتنة .. وكان سليم رغم جمالها الصارخ ورغم أنه اضطرب عندما مدت ساقها أمام عينيه وشعر بشىء يهزه بعنف .. ظل كما كان محتفظا بطابعه الصامت وبعده عن النساء جميعا .. لأنه مر بتجربة رهيبة فى أول شبابه مع امرأة سخرت منه ومن دمامته وضآلة جسمه .. فكره من بعدها النساء كرهه للشياطين وانصرف عنهن كلية .. إلى عمله وبرع فيه وجمع منه الأموال .. وكان لا يصرف كثيرا .. ويعيش عيشة الفقراء فزاد إيراده وتضخم ..
***
وكان يشعر بالسكينة لهذه الحياة التى ألفها .. واعتاد عليها .. ولكنه كان فى باطنه يصرخ ويتوق إلى هذا الجنس المحروم منه .. ولما كثر تردد النساء على محله ألفهن ونسى سخريتهن به .. ونسى أنهن من جنس آخر وأصبحت علاقته بهن علاقة عمل ..
وكانت الخادمات فى معظم الحالات من اللواتى يحملن إليه أحذية سيداتهن .. وكان وهو ينظر إلى الحذاء .. يعرف صاحبته .. يعرف قوامها .. من قدميها .. يرى حركة القدم مطبوعة فى الحذاء وكعبه .. فمنهن التى تمشى بجانب .. والتى تخطف خطفا .. والتى تمشى .. كأنها تعرج .. ومشية المرأة المتزوجة غير مشية الفتاة العذراء ..
وكان يقلب الحذاء فى يده ثم يرفعه إلى بصره .. ثم يدخل يده فى باطنه ويدور بها من أمام ومن خلف ثم يدنى باطن الحذاء من أنفه ويشمه .. ويرى عرق المرأة لا يزال فيه .. وكان يجد لذة فى عمله هذا .. وكأنه لامس بشرة الأنثى واشتم عبيرها .. كان عمله فى هذه الأحذية الصغيرة الدقيقة وتصوره الأقدام التى تلبسها والسيقان التى تحركها يشعره بلذة عارمة ..
وكان قانعا بهذه اللذة الخفية راضيا بها تنتشى لها حواسه وتتفتح براعم نفسه ..
وكان على مر السنين قد نسى التجربة الأليمة التى مرت به مع أول امرأة .. لأنه لم يفكر فى أن يعيدها ..
***
وكان يغلق دكانه فى يوم الأحد ويستريح .. يستريح راحة تامة .. وفى هذا اليوم يرتدى حلة نظيفة مكوية .. ويجلس مع أهل الحى فى قهوة قريبة ويتعشى بالكباب .. ويشرب زجاجة من البيرة .. ومن الغريب أنه كان يقابل فى هذا اليوم كمال الشاب الساكن فى البيت ويحييه ويود أن يسأله :
ـ هل اشتغلت ..؟
ثم يقابل ناهد أيضا .. فى نفس الشارع .. تمضى مسرعة رشيقة .. كأن الثلاثة قد ربطتهم سلسلة .. بعد أن تراءوا .. وتعارفوا ..
وكان سليم قد أقنع الشاب بأن يجرب أى عمل بدلا من القعود عاطلا فى انتظار الوظيفة ..
فقال له كمال :
ـ وإذا أعطيتنى جزمك علشان أبيعها .. تأخذ منى رهن ..
ـ أبدا يابنى .. عارفك أمين .. وبيعها واربح لغاية ما تكون لنفسك رأس مال صغير ..
وابتدأ كمال يأخذ من سليم أحسن ما صنعه من أحذية ليبيعها ويشتغل ويسعى فى الحياة ..
وكانت ناهد قد ذهبت إلى دكان سليم ومعها حذاء آخر .. ورجته أن يصلحه ويرسله إلى بيتها ..
وذهب إلى بيتها .. بنفسه وفتحت له الباب .. ولم يسمع غير صوتها فأدرك أنها تعيش وحيدة .. وكان يعرف أنها تعمل فى الصباح وبعد الظهر فى محل تجارى ..
وكانت فى أول الأمر تساومه على الأجر .. وإذا طلب عشرة قروش أعطته خمسة ..
ـ كفاية بقه .. يا عم سليم ..
وكان يضع النقود فى جيبه فى صمت .. ثم أصبحت تعطيه كل ما يطلب دون نقصان .. وأصبح يشعر بلذة خفية وهو يصلح لها أشياءها .. حقائبها وأحذيتها وخفها وكل ما يتصل بها ويلامس جسمها ويعيدها إليها بنفسه .. ويشعر بوحشة إذا لم يسمع حسها أو يلمس بأصابعه أشياءها ..
وذهب إليها ذات مرة فوجدها تتغدى .. وألحت عليه فى أن يأكل معها وجلس على طرف المائدة ذليلا كالكلب ثم شجعته بالبسمة والنظرة .. والضحكة الناعمة .. حتى اقترب منها وشاركها فى صحافها ..
***
وأصبح كلما حمل إليها شيئا يبقى عندها قليلا ويتحدث ويشعر بالراحة .. وكانت تبتسم فى وجهه وتستقبله أحسن استقبال وتلبس من الملابس ما يكشف عن محاسنها .. ومنذ تلك اللحظة رفض أن يأخذ منها أى شىء نظير ما يصلحه لها .. وكانت تقابل هذا الرفض بدلال .. أكثر ..
وذات يوم زارها فوجدها حزينة ثم علم أن نقودها نشلت منها وهى راكبة الترام .. فأظهر إخلاصه فى الحال .. وأعطاها عشرة جنيهات .. وكانت تتظاهر بالرفض ..
وقويت العلاقة .. حتى أصبح متيما بها مجنونا بحبها .. يقدم لها الهدايا النفيسة .. وكانت .. تأخذ منه النقود دون حساب ..
وذات يوم سألته :
ـ ليه عايش لوحدك يا سليم ..؟
فحملق فيها .. وفتح فمه دون أن يتكلم ..
ـ ليه متجوزتش ..؟
ـ مين يتجوزنى ..؟
ـ كتير .. كل واحدة .. تتجوزك .. أنت طلبت من حد ورفض ..
ونظر مبهوتا واشتدت ضربات قلبه .. وتحركت أمامه ترفع صينية الشاى وحملتها إلى المطبخ ..
ثم عادت وهى تدفع خصل الشعر .. عن جبينها .. وتقول مغمغمة :
ـ بكره الحد .. عندى أجازة .. وأنت قافل .. تحب نروح السينما ..
ولم يصدق أذنيه .. ولكنه ذهب إلى بيته وارتدى أحسن ملابسه .. ووضع منظارا أسود على عينيه .. وعاد إليها .. وخرجا إلى السينما ليحضرا حفلة السواريه .. وكان وهو يمشى معها فى الطريق إلى الترام لا يصدق أن بجواره أنثى .. كانت طويلة ورشيقة وجمالها محط الأنظار وكان قميئا ومشوها .. وتصور نظرات الناس تلاحقه بالسخرية .. وأن كل من يراه يهزأ به .. فتجمع على نفسه .. وكان يمشى بعيدا عنها ثم راح فى دوامة من العواطف واقترب منها حتى كاد أن يتأبط ذراعها .. كان يود أن تجره وتسير به .. كان يود أن يعتمد عليها لأنه شعر بخذلان شديد .. وفى السينما التصقت به حتى شعر بالدفء .. وبضربات قلبه تدق .. كالمطرقة .. وبعد السينما أبقته فى بيتها إلى الصباح ..
***
وخرج فى بكرة الصباح وهو يمرغ يديها ورجليها بالقبلات ويعض بأسنانه فى فراشها ..
وعاش بعد هذا نصف عام كامل كأنه فى حلم .. وهو لا يدرى من أمر نفسه شيئا .. كان كالمأخوذ .. وكانت قد سيطرت عليه تماما .. وأسلم نفسه لها ولم يكن يرفض لها أى طلب .. وفى مدى شهور قليلة أحس بأنه صرف عليها وعلى نزواتها وشهواتها كل أمواله المدخرة .. وكانت تطلب منه مبالغ كبيرة .. فى كل حين ..
وكان يعطيها ولا يسألها .. ويقدم لها المحفظة خشية غضبها لتأخذ منها ما تشاء .. وكان من عادته أن يفتح المحل فى السابعة صباحا من كل يوم .. فأصبح يتأخر إلى العاشرة .. وما بعدها .. وكان لا يشرب إلا زجاجة من البيرة كل أسبوع فأصبح يشرب كل أنواع الخمور وينهض من الفراش لينام من جديد .. وهو يشعر بالصداع يمزق رأسه .. وأصبح لا يستطيع أن يقوم بأى عمل إلا بعد أن يشرب الشاى الأسود .. بكميات كبيرة .. وقلت عنايته بصنعته وشعر بأن الزبائن انصرفت عنه .. وأنه تحطم ..
***
وكان كمال يأخذ منه الأحذية الجديدة لبيعها .. كان الرجل يشفق عليه ويشجعه على العمل .. ولكنه لم يعطه من ثمنها قرشا .. واختفى عن وجهه .. وكان سليم يود أن يبلغ البوليس ثم أشفق على مصير الشاب بعد أن يدخل السجن .. ونسى أمر هذه الأحذية .. ثم حدث نفسه بأن كمال لا يحسن بيعها لأنه لم يعرك الحياة .. ولم يتمرن على التجارة ولا شك أنه أضاع النقود .. وأفلس وعاد إلى الجوع والبطالة .. وأشفق على مصيره المظلم وتألم ..
ولكنه رأى كمال منذ شهر واحد يرتدى أحسن الملابس وبيده ساعة ذهبية .. ويبدو فى أحسن حال .. فليس من المعقول .. أن يذهب كل هذا سريعا ويعود إلى الجوع ..
وأخذ سليم يحدث نفسه .. ثم استقر رأيه على أن يصعد إليه فى غرفته على السطح .. وصعد فلم يجده .. ووجد الباب كأنه مفتوح .. ولما نظر ألفى الفراش مهملا .. ويعلوه التراب والغرفة كأنها مهجورة منذ عام .. وذهل وهو يرى الأحذية .. التى أخذها منه والتى حسبه باعها .. مكومة فى غير نظام وقد علاها التراب .. أنه عاجز عن عمل أى شىء .. أنه تنبل وكان يضحك عليه ويوهمه بأنه يبيع زوجين فى الأسبوع .. أنه عاجز عن القيام بأى عمل .. ولكنه يرتدى أحسن الملابس ويبدو متأنقا ووجيها ويشرب أفخر أنواع السجاير .. فمن أين تجيئه النقود ..؟
ونزل السلم وقد عزم أن يذهب إلى ناهد ويحدثها بما فعل كمال .. وقبل أن يقترب من بيتها خيل إليه أنه يرى كمال نازلا من البيت وأنه عندما شاهده أسرع وغاب فى الظلام ..
ولكنه نفى هذا الخاطر عنه عندما اجتاز العتبة ..
***
ومرت الأيام .. ومرض سليم وذهب إلى ناهد وهو يتحامل على نفسه ورجاها بأن تعطيه بعض النقود ليعالج نفسه ويأكل ..
فهزت كتفيها :
ـ منين .. معنديش ..
ـ بيعى حتة دهب .. من اللى جبتهولك ..
وضحكت ..
ـ أنت جبتلى دهب ..؟
فجن الرجل من الغيظ ..
ـ أيوه .. وصرفت عليكى الألوف ..
ـ صرفت على نفسك .. ياعرة .. يا متعوس .. من فضلك أنا رايحه الشغل .. متعطلنيش .. اتفضل ..
وأخذت تسمعه كل كلام موجع وتنمرت كاللبؤة ..
وغدت تتهرب منه وأصبح يذهب إليها فلا يجدها .. ويجدها ولا تفتح له الباب .. وكان يغلى غيظا .. ولكنه يكتم الانفجار ..
وذهب إليها مرة وطرق الباب .. وكان النور مضاء .. قبل أن يصعد السلالم .. فلما وقف على الباب .. انطفأ النور .. وعاود الطرق وسمع حسها .. وهى تتحدث بصوت خافت وسمع حس رجل ..
وأصغى ووضع أذنه على الباب :
ـ دا يمكن الأعور .. إن كان هو تبقى ليلة سودة ..
ـ بيحبك ..
وسمع ضحكة ساخرة .. ووصفا له أجنه .. ووجد نفسه يدفع الباب بجسمه فانفتح بسهولة .. ودخل وأشعل النور .. ووجد ناهد عارية فى أحضان رجل ولما استدار له الرجل عرفه .. أنه كمال ..
وخرجت ناهد ..
ـ إطلع بره يا كلب .. إزاى تدخل ..
ودار بعين مجنون .. ووجد سكينا ملقاة بجانب بقايا بطيخة .. على مائدة صغيرة فى الصالة ..
وكان على المائدة بقايا لحم وخمر .. أنها تطعم كمال وتصرف عليه من نقوده ..
وتناول السكين سريعا .. وتقدم بها نحوهما .. فدفعه كمال سريعا برجله .. وهرب ..
ولم يجد سليم أمامه سوى ناهد .. فانقض عليها يمزق جسدها .. تمزيقا .. ولما خارت قواه سقط بجوارها .. ولكنه ظل قابضا على السكين ..
========================= 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بتاريخ 23/1/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الأعرج فى الميناء " سنة 1958
========================          










حانة المحطة

     فرغنا من حصاد القمح وكومناه فى الأجران ودارت على القش النوارج .. وتركت كل شىء فى حراسة الشيخ عبد الحفيظ ، وركبت الفرس إلى حانة المحطة لأقرأ الجرائد وأعرف أحوال الدنيا والسوق .. وهى حـانة صغيرة على مسيرة ثمانية أميال من العزبة يملكها رجل يونانى ، وهى المكان الوحيد فى تلك المنطقة الفقيرة الكئيبة الذى تحس فيه بالحياة .. وتجد فيه فنجانا من القهوة وكوبا من الماء النقى .. وقد جعلها الرجل تحت أنظار الذين يخرجون من قطارات الركاب التى تقف على محطة بنى نافع ..
     فهى قهوة صـغيرة وبار وبقـالة فى الدور الأرضى .. ثم سرير واحد .. فى الطابق الثانى للموظفين والتجار الذين يتخلفون من قطار الليل ولا يجدون سيارة أو ركوبة تنقلهم إلى بيوتهم .. ولكن نزلاء هذه الغرفة كانوا قليلين جدا على مدار السنة .. ولم يكن مخالى يحسب لهم حسابا .. ولهذا أقام هذا الطابق هو وزوجته .. وكانت عنايتة كلها متجهة إلى الحانة ..
     وفى هذه الحـانة كنت أستريح كلما نزلت من القطار حتى تجىء
 الركوبة التى تنقلنى إلى العزبة وأعود إليها كلما أحسست بالفراغ والوحشة ..
     وكان من زبائن الحانة المستديمين توفيق أفندى ناظر المحطة ثم عبد الجواد أفندى أمين شونة بنك التسليف .. ثم السيد حسن عبد المجيد وهو شاب مثلى من المزارعين وكان مقطوع الرجل اليسرى ولكنه خير من يركب على سرج وأبرع رجل فى الرماية ..
     وكانت مدينة ديروط تبعد عنا ساعة كاملة فى القطار .. ولكننى لم أكن أحس فى محطة بنى نافع الصغيرة بالوحشة ..
     وكان توفيق أفندى يحمل إلىَّ كل الجرائد والمجلات التى جاءت فى قطار الظهر .. وعطية الفراش يخدمنى ويذهب إلى كل مكان ..
     ويجىء بالطعام من عند مخالى إذا ما رأيت أن آكل فى المحطة ..
     وكنت أقرأ الصحف وأنا أستظل بشجرة فى داخل المحطة وأسمع حركة القطارات وصفيرها وجلجلتها على القضبان .. وحركة السيمافورات التى تفتح وتغلق كلما مر قطار .. وأرى أسلاك التليفون والبرق وهى تهتز وأعمدتها تئز كلما مر الاكسبريس وهو يثير زوبعة من الغبار ..
     وكنا نسهر فى الحانة ونسكر .. وكان يمر علينا تجار الغلال والماشية فنعرف منهم كل أحوال السوق .. فإذا ما مر قطار الساعة الحادية عشرة ليلا وهو آخر قطار يقف فى المحطة .. فرغت القهوة والبار من روادهما .. وجلس توفيق أفندى وعبد الجواد أمين الشونة وحسن عبد المجيد حول المائدة يلعبون القمار وكنت أجلس لأتفرج ولا أشترك معهم فى اللعب إلا قليلا ..
     وكانوا يلعبون فى أكثر الحالات إلى الصباح .. ثم يذهبون إلى عملهم محطمين من التعب وأعود أنا إلى العزبة لأنام إلى الضحى .. وكان مخالى يتقاضى جنيها كاملا أجرا للمائدة .. وكنا نصرف أضعاف هذا المبلغ على الطعام والشراب ، والواقع أنه كان يعتمد علينا اعتمادا كليا ..
     وكنت قد شغلت كلية بالحصاد ، فلم أذهب إلى الحانة طيلة أسبوعين ، فلما عدت إليها بعد هذه الغيبة وصعدت إلى الدور الثانى كعادتى لأغسل وجهى من تراب الطريق لمحت فتاة جالسة فى الغرفة الداخلية وكان وجهها إلى النافذة .. وظهرها إلىَّ فلم أتبين ملامحها ، وإنما رأيت ثوبها وجسمها وهى جالسة على الأريكة .. ولما أخذت طريقى إلى السلم لمحتنى فأعطتنى نصف وجهها ..
*** 
     وأصبحت أرى الفتاة كلما جئت إلى الحانة .. وكانت تساعد مدام مخالى فى عملها ، وعلمت أنها أخت المدام ، وأنها كانت تعيش فى الإسكندرية وجاءت بعد أن مات زوجها .. ولم أكن أبيت فى حانة المحطة قط .. وإنما كنت أستريح فقط فى النهار على كنبة أو حشية فى ساعات القيلولة .. ولكننى بعد أن وقع نظرى على " أتينا " واستملحتها ، كنت أصعد إلى الدور العلوى .. لأستريح فى النهار والليل .. وبدلا من تناولى الطعام فى البار كنت آكل فى الطابق الثانى ، وكانت أتينا تعد لى المائدة وتقدم الطعام والشراب .. وكنت أشرب الكونياك فى أغلب الأحيان وأظل أتحدث مع مدام مخالى وأتينا .. حتى أسمع صياح حسن عبد المجيد فى الدور الأرضى فأعرف أنهم بدأوا يلعبون القمار .. وكانوا يلعبون يومين أو ثلاثة فى الأسبوع .. دون انقطاع عندما كان يكتمل عددهم ويعود الموظفون منهم الذين ذهبوا للتفتيش .. والواقع أنهم كانوا جميعا يحسون فى أعماقهم بالتعاسة ويشكون من الخمول والفراغ ، وكانوا يحسون بالفراغ أكثر فى المساء إذ لم يكن هناك ما يشغلهم على الاطلاق وكنا نشكو جميعا من الملال والضجر ، ونجد فى حانة المحطة البلسم لجراحنا . وكنا فى أيام الصيف المتقدة نتعذب من الغبار والذباب والظلام الذى حولنا وفى نفوسنا .. فإذا فرغنا من أيام الحصاد وجمعنا المحصول .. طرنا إلى المدينة لننعم بما فيها من أنوار ..
     وكانت حانة المحطة التى تضاء " بالكلوب " هى مقصدنا والنور الوحيد فى الظلام المحيط بنا ..
     وكنت عندما أسمع صياح حسن ورفاقه فى الدور الأرضى أهبط إليهم وأحاول أن أعيدهم إلى الهدوء .. وكانوا يلعبون القمار كمحترفين وتستغرق اللعبة حواسهم كلها .. وكنت أراقبهم عن كثب وأدرس وجوههم وانفعالتهم .. وكان الواحد منهم يتشاءم لمجرد تغيير الكرسى الذى يجلس عليه والكوب الذى يشرب منه .. أو إذا وقف مخالى على رأسه .. أو إذا وضعت له أتينا الكأس على حافة المائدة من الناحية اليسرى ..! كانوا يتشاءمون من أشياء تبعث على الضحك .. وكان القمار يستغرق حواسهم فلم ينظر أى واحد منهم إلى أتينا نظرة اشتهاء رغم أنوثتها الصارخة ، ولقد أدركت من هذا سلطان القمار على النفس .. فهو يقتل الرغبة فى النساء .. وهذا أعظم سلطان ..
     وكان مخالى يغلق باب الحانة المؤدى إلى الشارع .. ويبقى الباب الداخلى الصغير المفضى إلى الدور العلوى ..
     وكانوا ينتهون من اللعب فى الساعة الثانية أو الثالثة صباحا .. ويخرجون صفر الوجوه محطمين جميعا جائعين إلى النوم ..
     وكان الذى يكسـب فى أغلب الحالات هو عبد الجواد أمين الشونة .. وقد عجبت أول الأمر للحظ الذى يواتيه على طول الخط ثم علمت أنه يغش فى اللعب ، وكان سكيرا ومقامرا ومرتشيا ، ويسرق من محصـول الفلاحـين المساكين الذى يقدمونه للشونة فى عملية الحيازة .. فيأخذ من كل اردب كيلة كاملة لنفسه يسرقها فى الميزان ..
     وكان جميع الفلاحين يعرفون ذلك .. ولكن ما ما من واحد منهم كان يستطيع أن يفتح فمه ..
     ولم يكن يفعل هذا إلا مع صغار الفلاحين ، أما كبار المزارعين .. فكان يخشى بأسهم ويتقرب إليهم ويجعل منهم ستارا وحماية ..
     وكان قد أخذ يشترى الأطيان من الفلاحين بعد أن يقرضهم بالربا الفاحش ويجدوا أنفسهم عاجزين عن السداد . ثم أخذ يستأجر العزب الكبيرة ويؤجرها للفلاحين .. وكان حسن عبد المجيد يكرهه لهذا ويجد فيه دخيلا على المنطقة ومنافسا خطيرا وكانت هذه الأحقاد المكتومة تنفجر فى ساعة القمار ..
     ولم أكن أنا أشفق على أحد منهم إذا ما خسر فى الليلة الواحدة خمسة أو عشرة جنيهات ، لأنهم أثرياء ويأتيهم المال من عرق الفلاح المسكين .. وإنما كنت أشفق على توفيق أفندى ذلك الموظف المسكين الذى جره الفراغ والتعاسة إلى هذه اللعبة القاتلة ..
***  
     وذات ليلة نمت فى الدور العلوى من الحانة لأننى كنت قادما من ديروط ولم أجد الركوبة فى انتظارى لتنقلنى إلى العزبة ..
     وأعدت لى مدام مخالى سريرا نظيفا .. وعشاء ساخنا .. فجلست بعد العشاء أدخن .. وأنظر من نافذة الغرفة إلى ما حولى من ظلام وسكون .. وكانت المحطة هناك على مرمى البصر وليس فيها أى شىء سوى مصباح ضئيل أحمر .. تتراقص ذبالته كلما تحرك الهواء ..
     وكان الشىء الوحيد الذى يسمع صوته هو أسلاك البرق وحركة السيمافورات الأتوماتيكية . وكان خفير المحطة يتحرك فى الظلام على الرصيف مقبلا مدبرا .. ثم يضع البندقية بين رجليه ويجلس على زكائب من الغلال فى انتظار الشحن .. وكان منظر مكتب التذاكر ومكتب الناظر وخلفهما بستان من النخيل قد زاد المكان جهامة ووحشة .. وكانت أنوار القرى الصغيرة تبدو من بعيد .. وبعض الفلاحين يشعلون النيران فى الحقول . أما قرية نافع والعزب المجاورة لها فقد كانت غارقة فى ظلام دامس وليس فيها أى دليل على الحياة ..
     ومر قطار بضاعة طويل وكان قادما من أسيوط وأخذ يصفر .. فبعث الحياة فى المكان ..
     وكان الجو حارا فتركت الباب والنافذة مفتوحتين ليمر الهواء وأطفأت المصباح البترولى وتمددت على السرير وقد شعرت بطراوة الهواء وبالسكون .. وسمعت صوت مخالى وهو داخل فى الردهة لينام .. ثم أحسست بنور غرفته يطفأ وبقى فقط المصباح البترولى الصغير فى الردهة .. وكان يلقى ضوءا لينا على مدخل البيت ..
     ومرت أكثر من ثلاثين دقيقة أخرى وأنا متيقظ ثم رأيت نورا جديدا يدخل الردهة .. وبابا يفتـح .. ودرت نصف دورة على السرير .. ورأيت أتينا فى غرفتها من بابها المفتوح .. تجلس نصف منحنية على الكنبة الوحيدة .. وفى يدها سيجـارة .. ولم أرها تدخن قبل هذه اللحظة .. وخيل إلىَّ أنها تأكل السيجارة ولا تكتفى بسحب دخانها .. وكان شعرها يغطى نصف وجهها وقميص نومها ينحسر عن الساق اليمنى حتى الفخذ ويغطى الساق الأخرى كلية .. وبدت خطوط جسمها واستدارة كتفيها وضغطة الرأس الصغير على العنق .. وانتصبت وغابت عن بصرى لحظة وعندما عادت إلى مكانها .. انحنت قليلا على المصباح لتخفف من نوره ..
     ثم تلفتت كأنها تبحث عنى أو كأنها تخشانى .. ثم استقر رأيها .. وأخذت تخلع القميص وفى نفس اللحظة أغلقت عينى .. كأننى لا أستطيع الصمود أمام هذه الفتنة الطاغية .. وسمعت بعد دقيقة واحدة المفتاح يدور فى قفل الباب ..
***   
     وفى الصباح دخلت علىَّ الغرفة بصينية الشاى وسألت :
     ـ نمت كويس ..؟
     ـ خالص .. هواء جميل ..
     ـ الغرفة الثانية بحرية وفيها هواء أكثر .. تعال شوفها ..
     ومشيت وراءها إلى الغرفة التى نامت فيها .. ورأيت آثار جسمها على السرير ..
     ـ أعجبتك ..؟
     ـ طبعا هذه أحسن .. ولكنك تنامين فيها .. فهى لك ..
     ـ لا .. سنجعلها لك .. حتى تنتهى من المحصول ..
     ـ لقد أصبحت ريفية وتعرفين المحصول .. ومواعيده ..
     ـ عشت طويلا فى الريف .. فى نجـع حمادى .. فى البلينا .. فى المنيا ..
     ـ قبل الجواز ..؟
     ـ وبعده ..
     ـ وستمكثين طويلا هنا ..؟
     ـ لا أدرى .. وقد أسافر فجأة .. كما جئت فجأة ..!
     وكنا نتحرك تجاه الباب معا ..
     وعند المصراع المفتوح اقتربنا وكدنا نلتصق .. ورأيت صدرها العارى يتحرك مع أنفاسها .. وأخذت أقاوم رغبة عنيفة فى ضمها إلى صدرى .. فوقفنا دون حركة على العتبة نصف دقيقة كاملة ونحن نتبادل النظرات الملتهبة .. وسمعت صوتها أشبه بالهمس :
     ـ اتفضل ..
     فتحركت إلى الخارج وكأنى خارج من دوامة ..
***
     وأخذت أبيت عند مخالى .. وأباشر عملى فى العزبة .. وازددت قربا من أتينا .. وكانت تحادثنى بحرية المرأة التى خرجت إلى الحياة .. وذهبت إلى أكثر من مدينة وعرفت ألوانا وأشكالا من الناس ..
     وكانت امرأة ككل النساء اللواتى عرفتهن فى الحياة .. لكن كانت غليظة الشفة سوداء الشعر جدا .. واسعة الفم والعينين .. وكان صوتها أشبه بصوت الكروان .. وكنت أسمها تغنى غناء خافتا وهى تعمل فى المطبخ ، وبدا لى أن أسألها هل اشتغلت بالغناء ، فقد كانت تغنى وكأنها تصاحب الأوركسترا ..
     وكان مخالى يقدم الطعام لمعظم الموظفين وتجار المواشى والغلال الذين يمرون فى المنطقة فى فترة المحصول .. لأن القرية كانت بعيدة عن المحطة .. وكانت زوجته وأتينا تصنعان الطعام كله .. وكانت الفلاحات يحملن له حتى الباب كل ما يحتاج إليه .. الطيور والبيض والخضار ويختار منها أجود الأصناف .. وكان الفلاحون يقولون عنه أنه جمع ثروة طائلة لأنه يعمل فى الريف المصرى منذ أربعين سنة ..
     وبعد العمل فى البيت ، كانت أتينا تجعل كل وقتها لى .. وشعرت نحوها بالحب الممزوج بالشفقة لأن مخالى كان يتقاضى أجر اقامتها عنده أضعافا مضاعفة .. ويجعلها تعمل خادمة وطاهية وغسالة وحائكة للملابس ..  
     كل الأعمـال التى تجيدها النسـاء ، ويحرمها من لذة الحب والراحة ..
     وكانت إذا رأتنى فى الظهر وأنا أستريح ساعة القيلولة يبدو الفرح على وجهها .. لأننى الوحيد بين الذين رأوها الذى أعارها انتباهه ..
     وكنت معها ذات غروب عندما لمحت وأنا أحرك يدى على صدرى خطا أسود بجانب الكتف ..
     فسألتنى :
     ـ جرح ..؟
     ـ رصاصة قديمة ..
     وفتحت فمها من الذعر فقلت لها بأسى :
     ـ رصاصة أطلقها أخ لحسن .. الشاب المقطوع الرجل الذى ترينه فى الحانة .. وكنا فى سامر ورأى الراقصة .. فاهتاج وأطلق الرصاص ليفض السامر .. وأنا من وقتها وأنا أكره السامر والسمر .. والنساء ..
     وسألتنى وهى باسمة :
     ـ ولماذا تعيش فى الريف ..؟
     ـ ما من ذلك بد .. جئت مضطرا بعد وفاة والدى .. وكنت أود أن أدير شئونى وأنا فى المدينة .. ولكننى وجدت أن ذلك مستحيل .. فأنا أسرق وأنا موجود من حراس الزراعة ومن الفلاحين ويضيع ربع المحصول .. فكيف إذا غبت عنهم ..
     ان الفلاح يعتقد أننا نأخذ منه قوت عياله .. وهو على حق فى اعتقاده لأنه يشقى .. ويفلح الأرض ويعمل طول السنة .. ونحن لانعمل أى شىء ونستولى على المحصول . فهو مظلوم من مئات السنين ويحس بالظلم أكثر عندما يرى غرسه يذهب لغيره .. وبشعور الظلم هذا يسرق ويقتل ويفعل كل ما ينفس عن هذا الظلم .. وعندما جئت إلى هنا منذ عشر سنوات حاولت أن أكون عادلا ، فأعطيت الكثير منهم فدانين وثلاثة .. ليزرعوها لأنفسهم نظير ايجار معقول .. وبذلك يحسون بكرامة الإنسان ..
     ـ ولماذا لم تتزوج .. أما زلت تكره النساء ..؟
     ـ فى الواقع لايوجد سبب معقول .. وقد أكون استطبت هذه الحياة .. والآن فات الأوان ..
     ـ لماذا ..؟
     ـ هذا هو احساس الرجل بعد سن الثلاثين ..
     ـ ولكن الزواج قبل هذا حماقة ..
     ـ الرجل يتزوج فى سن العشرين فى الريف .. فإذا ضاعت منه الفرصة فى هذه السن .. فاته القطار ..
     ـ ولكنك فى أنسب سن الزواج ويجب أن تتزوج ..
     ـ ولماذا تصرين على زواجى ..
     ـ لأنى أخشى عليك من الخمر .. والقمار .. أخشى عليك من الدمار ..
     ـ ولماذا لاأسكر وأشرب وأنا متزوج ..؟
     ـ لأنك لن تشعر بالفراغ .. ولا بالتعاسة التى يخلقها الفراغ المطلق للإنسان .. عندما يكون فارغا يدور حول نفسه .. ولكن عندما تتزوج ستشعر بعظم الحياة ولذة الكفاح لإسعاد أسرة ولاتجد لحظة لتفكر فى نفسك .. تعيش لغرض أسمى ..
     ـ ألم يلعب زوجك القمار ..؟
     ـ لو كان مقامرا أو سكيرا لقتلته .. ان المرأة تكره هذين كرهها للشيطان ..
     ـ ولهذا تكرهيننى ..!
     ـ اننى لا أكرهك ..
     ـ ولا تحبيننى كما ..
     ـ باستا .. باستا ..
     ولا أدرى لمـاذا اختـارت هـذه الكلمة الإيطالية وخرجت مسرعة ..
***  
     وذهبت إلى العزبة لأدخل الغلة فى الشونة .. وأقمت فى عريشة ..
     وكان النهار يمضى مملا محرقا وليس فيه حركة .. وفى الأصيل كانت تبدو الحركة .. تخرج الطيور لالتقاط الحب والأغنام ترعى .. والجاموس والأبقار والجمال تتحرك فى الحقول .. والنساء يذهبن إلى النيل لملء جرارهن .. وكانت طريقهن بجوار العريشة .. ولكنهن لاحظن وجودى فغيرن الطريق إلى أبعد .. فإن وجودى فى العزبة كان يقيد من حريتهن ..
     وفى الصباح كن يذهبن .. لملء الجرار قبل أن تطلع الشمس وكنت أراهن راجعات من النيل ، وأرى واحدة فى كل سرب وقد ابتل ثوبها والتصق بجسمها ، فأعرف أنها نزلت فى النيل لتستحم وهى لابسة جلبابها الوحيد ..
     وكنت أرى تقاطيع هذه الأجسام جميلة طبيعية تبدو فى نضارتها وفتنتها ، وأشعر بلسعة كأننى اكتويت بالنار ..
     وكنت أتمشى ذات يوم بعد الفجر على الطريق الزراعى الضيق المؤدى إلى الشـاطىء ، ولمحـت من بعيـد ثلاثا من النسـاء يمـلأن " البلاليص " وقد شمرت إحداهن عن ساقيها وفخذيها .. وحلت شعرها وخلعت جلابيتها السوداء وبقيت فى قميص .. وأخذت تدعك ساقيها وفخذيها بالصابون ، وبصرت بى إحداهن .. فحدثت زميلتيها ، فظهر الذعر عليهن جميعا وغصن بملابسهن فى الماء ..
     وتراجعت آسفا ضاحكا ولم أذهب إلى هذا المكان مرة أخرى ..
     وعندما انتهيت من نقل الغلة إلى شونة بنك مصر رجعت فى الليل إلى حانة المحطة .. وطلبت من أتينا أن توقظنى قبل قطار الركاب فى الساعة الرابعة صباحا ..
     فقالت :
     ـ ولماذا تنام .. ابق صاحى أحسن ..
     ـ سأنام ولو ساعتين .. وأرجو أن ألحق القطار ..
     وبعد ساعة جاءت ضاحكة ونادتنى ..
     ـ يا سيد ابراهيم .. اصح الساعة قربت على الرابعة ..
     ـ كم الساعة حقا ..؟
     ـ نصف الليل ..
     كانت واقفة على العتبة وممسكة بيدها اليمنى مصراع الباب من أعلى وواضعة خدها على يدها .. وثانية رجلها اليمنى .. نصف مسترخية ونصف حالمة ..  
     فقلت لها وأنا مسرور بجمالها :
     ـ ما أحلاك الليلة ..
     ـ ألأنى أيقظتك .. تقول لى هذا الكلام ..
     ـ لم أنم ..
     واستويت على أرض الغرفة .. ورأيت النيل تبدو صفحته تحت ضوء القمر .. ومركبا واحدا يسبح ضد التيار ..
     وقلت لها :
     ـ اننى كلما رأيت مركبا على النيل .. تخيلتك معى هناك .. ولا أحد سوانا ..
     ـ هل أعمل لك شاى ..؟
     ـ هل فى كلامى ما يسوء ..؟
     ـ لا .. ولكن ما هى النتيجة ..
     ـ وهل من الضرورى أن يكون لكل شىء نتيجة ..
     ـ هذا ضرورى .. بالنسبة لإحساسى كأنثى ..
     على أى حال أنا أعتبر نفسى سعيدا .. سعادة لا تقدر ..
     ـ لماذا .. من الغريب طبعا .. أن تصادف امرأة شابة مثلى فى حانة وتجد شبه فندق فى هذا المكان .. فى قلب الصعيد .. وأنا نفسى تساءلت لماذا اختار مخالى هذا المكان المقفر ليجعله مورد رزق له .. ثم علمت أن سوق القرية كان قريبا منه عندما اختار هذا المكان .. ثم انتقل السوق إلى ضفة الابراهيمية القريبة وبقى مخالى هنا ، على أى حـال لقـد أصبح كهلا .. ويريد أن يستريح ، لقد أدى دوره فى الحياة ..
     ـ وأنت ..؟
     ـ لقد انتهى دورى قبله .. وأسدل الستار ..
     ـ انك شابة جميلة .. وأمامك الحياة الضاحكة بكل ما فيها من سعادة ..
     ـ انك لاتفهم شعور المرأة عندما يموت زوجها وهى صغيرة .. ويكون هو شابا مثلها .. يصيبها خدش طويل كهذا الذى تراه على لوح من البللور ..
     ـ هل كنت تحبينه ..؟
     ـ إلى درجة العبادة .. كان شابا مثلك .. طويلا قويا .. وكان يكسب .. وكله أمل فى المستقبل .. ولكنه ذهب .. كالحلم .. ما من شىء يبقى فى الحياة ..
     ـ اننى أفكر فى الذهاب إلى القاهرة لأقضى عشرة أيام بعد أن انتهيت من القمح .. فهل تذهبين معى ..
     ـ لا ..
     ـ لماذا ..؟ لأننى مصرى أولا وريفى ثانيا .. وستشعرين معى وأنت أجنبية بأنك غريبة عنى ..
     ـ هل من الضرورى أن أقول لك أننى بقيت عند مخالى .. لأنك جئت وليس لأننى أستطيب الحياة هنا ..
     ـ أعرف أنك مستريحة لوجودى ..
     ـ لماذا إذن تكثر من الكلام ..
     ـ لأننى أحببتك من أول لقاء ..
     ـ باستا .. باستا ..
     وخرجت ضاحكة ..
***
     وذات ليلة عدت من العزبة متأخرا وقبل أن نقترب من المحطة .. دوى الرصاص قربنا .. وعرفت أنا والخفير الذى معى أن اللصوص سرقوا ماشية من الحقول .. وأحس بهم خفراء النقطة .. فاشتبكوا معهم فى معركة حامية .. ولا أدرى من الذى أشاع أننى قتلت .. فقد خرج الفلاحون بسلاحهم لملاقاتى .. وعندما وجدونى حيا .. التفوا حولى يهنئونى .. وانصرف الناس .. وبقيت فى الحانة مدة ساعة .. وجاء مخالى والمدام .. مسرورين .. بحياتى .. ولكن لم أر أتينا .. فتألمت وتصورتها سافرت .. ولكن عندما صعدت لأنام .. وجدتها واقفة وحدها فى الظلام على بسطة السلم ، وعندما اقتربت منها ارتمت على صدرى وشدتنى إليها وهى تبكى دون صوت ..
     وقلت لها هامسا :
     ـ اتركى باب غرفتك مفتوحا الليلة ..
     فقالت وهى تمرغ خدها على لحمى :
     ـ فوق .. فى السطوح .. أحسن ..
     ولم أنم ، وبعد نصف الليل جاءت حافية ترتدى قميصا واحدا .. وطلعنا إلى السطح .. ولم نجد أى شىء نفرشه على التراب .. فخلعت قميصها ..
     وسألتنى وأنا أمسح بيدى على شعرها :
     ـ ألم تحب .. قط ..؟
     ـ قبلك .. لأ ..
     ـ وهل بيننا حب ..؟
     ـ جنون ..
     ـ تقول هذا الآن لأنه مضى عليك شهر وأنت بعيد عن المدينة .. وعن النساء .. ولكن عندما ترجع إلى هناك ستنسى .. تنسى كل ما حدث ، أنك تحب الأرض التى تزرعها .. ولا شىء غير ذلك .. وأنا لست عندك أكثر من بقرة .. فلا تخدعنى ..
     ـ وهل أنا ملتصق بالأرض إلى هذا الحد ..؟
     ـ ولكنـك التصقت بها .. وكل النـاس يتحدثون عنك .. كفلاح .. يعيش للأرض .. لأنها تعطيك أكثر من أى شىء آخر فى الحياة ..
     ـ وهل يمنعنى هذا من الحب ..؟
     ـ حب ريفية مثلك ..
     ـ يعنى أقطع الأمل إلى الأبد ..
     ـ أنا حبيبتك ما دمت هنا ..
     ـ إذن سأظل هنا حتى الموت ..
     وشعرت بها تمسح بشفتيها على جرحى .. وسألت :
     ـ هل تتألم من هذا الجرح ..؟
     ـ انه مات ..
     ـ آسفة .. كنت أحب أن أولمك ..
     ـ بأسنانك ..
     ـ وبأظافرى .. أريد أن أجعلك تدمى .. هذا شعور غريب .. ربما لأنك أقوى .. ولأنك رجل .. لا أعرف ..
     وظللنا نتناجى حتى طلع القمر ..
***  
     وفى الليلة التالية .. قمت فزعا من نومى على صياح فى الحانة .. ثم تبينت صوت توفيق أفندى .. ثم صوت حسن عبد المجيد .. وعلا الصياح فنزلت مسرعا .. ووجدت توفيق أفندى يستعطف ويبكى وهو فى حالة يرثى لها .. فقد خسر عشرين جنيها .. ولم تكن نقوده ، وإنما كانت ايراد المحطة .. وقال لهم وهو يبكى أنه سيسجن .. وتوسل إليهم أن يعطيه كمبيالة بأى مبلغ نظير أن يرد إليه نقود الحكومة ، وكان يخاطب عبد الجواد أمين الشونة لأنه هو الذى كسب منه المبلغ .. ولكن عبد الجواد لم يستمع إلى رجاء .. وتدخلنا جميعا ولكنه أصر على عدم رد مليم واحد .. وهنا ثار حسن عبد المجيد .. ووقف يزأر :
     ـ أعطه الفلوس .. طلعها من جيبك حالا ..
     ـ بأى حق ..؟
     ـ لأنك لص وغشاش .. وحقير .. ومرتشى .. وكل الناس تعرف عنك هذا ..
     ـ أنا يا كلب ..
     ـ أنا كلب يا حرامى ..؟ خد ..
     وأخرج حسن مسدسه سريعا وأطلق النار .. وسقط عبد الجواد صريعا .. وبين دوى الرصاص والصياح والذعر .. ظهرت أتينا على الباب وكنت منحنيا على عبد الجواد فحسبتنى أنا الذى أصبت .. فجرت وارتمت على صدرى ..
     وفوجىء الحاضرون وأخذوا بهذا المنظر .. حتى نسوا من فرط الدهشة القتيل الذى سقط منذ لحظة ..






====================================  
نشرت القصة بمجلة الجيل فى 27/6/1955 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " الأعرج فى الميناء "
====================================

النساء

كان صبرى سعيدا فى حياته الزوجية .. فقد كانت زوجته هدى متعلمة فى المدارس المصرية والأجنبية .. وتدير شئون البيت بنظام ودقة .. وتعرف أشغال الإبرة والحياكة والطهى وتجيد العزف على البيان ..
وكانت تهىء لزوجها بعد عودته من عمله عشاء هنيا .. فلا تشغله بما جرى من الأولاد .. ولا تقول له أنها لم تجد لحما اليوم فى السوق .. أو خبزا نظيفا أو طيورا أو أن بائع اللبن يغش والمكوجى أضاع القميص .. كانت لا تحدثه بهذه التوافة لأنها تعرف أنه يعمل فى الخارج عملا مرهقا .. وجاء البيت ليستريح .. وكان يشعر بالسعادة لهذا .. ويحمد الله الذى اختار له هذه الزوجة ولكنه كان يعانى العذاب من شىء واحد .. من ترددها فى شراء حاجاتها .. كانت تتردد فى شراء الحذاء .. والجورب .. والفستان .. والبلوزة .. والجونلة .. والأشارب ..
وتدخل المحلات كلها .. الكبيرة والصغيرة لتختار علبة بودرة .. وكان يتضايق من هذا ويحاول أن يجعلها تقلع عن هذه العادة الذميمة .. ولكن الداء كان متمكنا من نفسها ..
وكان يستريح من عمله فى يوم الجمعة .. وأصبح يكره هذا اليوم لأنه بدلا من أن يتنزه مع  زوجته ويريحا أعصابهما .. كانا يمران على المحلات ..
وكان يظل من الساعة التاسعة صباحا .. إلى الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر .. يلف ويدور كالنحلة ويخرج من محل إلى محل .. دون أن تشترى أى شىء على الاطلاق ..
وكان يخجل من العاملات فى المحلات وهن يعرضن على زوجته كل صنف ولون .. ولكن ما من صنف يعجبها ..
وخرج معها ذات صباح لشراء بلوفر .. ودخلا محلا صغيرا فى ميدان مصطفى كامل .. وأخذت العاملة تريها كل الأنواع .. وكل الألوان المفتوح والمغلق من العنق .. وذا الأكمام .. والنصف كم .. وكانت العاملة جميلة وفمها يضحك أبدا .. وخبيرة بطباع النساء .. فلم تتضايق وهى تغير هذا وتبدل تلك وتصعد إلى الصف الثانى من الرفوف وتنزل .. وأخذت هدى البلوفر الذى وقع عليه الاختيار .. ودخلت إلى حاجز البروفة .. وسمع صبرى وهو واقف فى الخارج العاملة تقول لزوجته :
ـ جنان يا هانم .. مافيش أجمل من كده ..
ولكن هدى خلعت البلوفر ووضعته على الطاولة فى تردد ..
ـ مبروك ..
وأخذت العاملة تعد الفاتورة ..
ـ لا .. استنى ..
ـ على كيفك ..
ـ عاوزه أشوفه كويس فى النور ..
ـ تحبى تشوفيه علىّ ..
ـ أيوه ..
وأخذت العاملة تفك أزرار قميصها أمام الزوج .. وبدا البياض من كتفيها وجيدها وصدرها ..
وتناولت البلوفر ولبسته فى تمهل .. وبدا منسجما رائعا وبدت العاملة أكثر جمالا ..
وقال صبرى :
ـ بديع خالص .. لفيه ..
ـ استنى ..
فسألها زوجها ..
ـ تستنى علشان إيه ..؟
ـ لما نشوف عند إيرين ..
وطار عقل صبرى وخرج من المحل وهو يلعن نفسه والمتزوجين جميعا ..
وقالت له زوجته فى الطريق :
ـ يعنى لازم تبصبص حتى وأنا معاك ..؟
ـ أبصبص ..!
واستغرب وذهل ..
ـ إزاى تطلب من العاملة تقلع وتلبس قدامك .. ناقص كنت تقلعها خالص ..
ـ أنا اللى طلبت منها كده ..؟
ـ طبعا .. أمال أنا ..
وازداد غيظه وكاد أن ينفجر ولكنه كتم هذه الانفعالات كلها ولاذ بالصمت ..
***
ووجدت هدى أخيرا فى دكان صغير بلوفر جميلا .. من أجود أنواع الصوف .. ويباع بربح بسيط .. وسر زوجها لأنها اختارته .. ولكنها لم تأخذه .. وقالت لصاحب المحل أنها ستمر فى الصباح ..
وفى اليوم التالى دق جرس التليفون فى مكتب صبرى .. وكانت المتحدثة زوجته وطلبت منه أن يقابلها بعد ساعة فى شيكوريل ..
ـ هل المسألة مهمة .. للدرجة دى .. يعنى أسيب شغلى وأنزل علشان تلفى زى ما كنا امبارح ..
ـ ولو كانت اللى كلمتك .. رقاصة .. أو أرتست .. كنت حتقولها لأ .. ولا تنزل تجرى ..
ـ أرجوك بلاش كلام فارغ .. أنا دلوقت فى عز الشغل ..
طبعا أمال حتقول إيه .. علشانى .. وعلشان الأولاد .. دائما مشغول .. ولغيرنا فاضى ..
وتطور الحديث بين الزوجين .. إلى زعيق .. حتى سمعها تبكى .. فوضع صبرى السماعة منفعلا ..
وبعد نصف ساعة طلبها .. وقال لها أنه سيلقاها عند شيكوريل .. ولم تشتر شيئا من هذا المحل .. واختارت البلوفر من المحل الصغير ودفع الثمن وخرجا وهو يحمد الله .. ولكنه وجدها قد أرجعت البلوفر بعد الظهر وغيرت اللون من أسود إلى أزرق ..فلم يهتم ..
ولبست البلوفر الأزرق فى البيت وأرته لزوجها وأقبلت به وأدبرت فى غرفة النوم .. وقال لها أنه رائع ..
ومع هذا لاحظ .. أنها مشغولة البال وساهمة .. فتركها فى سهومها إذ كان يعرف أن المرأة تتغير طباعها تبعا لدورة القمر ..
***
وفى ضحى يوم الإثنين تكلم من مكتبه يسأل عن شىء فى بيته تركه سهوا .. فلم يجد زوجته فى البيت .. ولم تكن معتادة أن تخرج دون أن تعلمه فاستغرب منها ذلك .. وسأل الخادمة أين ذهبت ..
فقالت له :
ـ معرفش يا سيدى .. دى نزلت من بدرى .. وقالت راجعة حالا ..
فوضع السماعة وهو مستاء .. وبعد ساعة سأل عنها .. فلم يجدها .. فساوره الشك وقال لنفسه لماذا لم تخبره ..أنها تفعل هذا كلما وجدت الفرصة وهو لا يدرى .. ولقد كان مغفلا عندما منحها ثقته المطلقة وأنه يجب الحذر من النساء والتوجس منهن فى كل ساعة لأنهن متغيرات متقلبات .. وشعر بالهواجس تنهشه من كل جانب ..
وكان يود أن يخرج فى الحال .. ويذهب إلى البيت .. ولكنه قاوم نفسه حتى خرج فى ميعاده .. فلم يجدها .. وجلس فى الردهة ينتظرها وهو يغلى من الغيظ .. وأخذ يسب الخادمة .. وكل ما يقع عليه بصره .. وبعد ربع ساعة سمع حركة يدها فى قفل الباب ودخلت ولما رأته جالسا ظهر عليها الاضطراب والخوف فتأكدت شكوكه .. وقال لها بصوت يرعد :
ـ كنت فين ..؟
فلم ترد وازداد اضطرابها .. وأخذ يصيح وينطلق الكلام من فمه بسرعة القذيفة ..
وكانت الزوجة واقفة مسمرة فى مكانها مضطربة لا تجيب .. وفى أثناء ذلك سقط منها شىء على الأرض .. شىء صغير ملفوف فى ورقة .. وتمزقت الورقة وبدا .. البلوفر .. المسكين الحائر .. مطويا طيتين .. وفهم لماذا خرجت دون أن تعلمه .. لأنها تود أن تغير البلوفر خلسة ..
وهرولت الزوجة إلى غرفتها وأخذت تبكى وتصيح :
" أنت متوحش .. مين يطيقك .. مين يعيش معاك .. متوحش .."
وجلس الزوج صامتا يتلقى الشتائم بدوره .. وينظر مبتسما إلى البلوفر المسكين ..
======================= 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 469 فى 25/3/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الأعرج فى الميناء " سنة 1958
======================== 

  






















اسم القصة                       رقم الصفحة 
الأعرج فى الميناء     ...............   2
ذراع البحار     ...................     13
سيدة وحيدة..........................   25
الكهربائى  ..........................   33
الصورة الناقصة ...................    37
الحاجز         .......... ..........   52
الزلزال............     ..............  60
الثعبان  .......................        67
الخيط  .............................   72
الشعلة .............................   79
العودة إلى البيت    ...............    88
مكتبة فى الممر  ....................  98
الطاحونة    ......................... 101
الدوامة  ............................. 111
حانة المحطة  ......................  121
النساء   ...........................  135